صدر عن مجلس الوزراء الاثنين الماضي الموافقة على (نظام جرائم الإرهاب وتمويله). صدور هذا النظام يُعتبر خطوة تاريخية وهامة ومفصلية في حربنا مع الإرهاب بمفهومه الواسع؛ إذ سيُلغي الاجتهادات، والتأويلات، واجتهاد القضاة في تقدير العقوبات، وتصبح مهمة القاضي تكييف الجريمة وإسقاط العقوبة المقررة سلفاً على كل من يثبت ارتكابه للجريمة التي نص عليها القانون. والتكييف هنا أشبه ما يكون - كما يقول المتخصصون - بتشخيص الطبيب للمرض، وتطبيق القانون هو علاج الجريمة بمقتضى القانون بالنسبة للقاضي مثلما أن وصف الدواء هو علاج الحالة المرضية بالنسبة للطبيب. وإذا (غاب) التقنين، ولم يكن للحالة التي ينظر فيها القاضي سابقة منصوص عليها في كتب الفقه، تتسع مهمته ليصبح (مُشرِّعاً) يتعامل معها تعامل المشرِّع؛ فإذا كان يراها - حسب تقديره واجتهاده وقياساته- ممارسة تستحق الكبح والعقاب أدخلها ضمن إطار (التعزير) الذي ليس له صفة معينة ولا مقادير محددة، وإذا رآها خلاف ذلك - حسب تقديره - حَكَمَ بالبراءة.. التقنين يأتي (لينتزع) مهمة تحديد وصفة الجرائم وطرق الإثبات وتقدير العقوبات من ولاية القاضي لتحكمها الشريعة المُقنّنة؛ استناداً إلى (أن من حق ولي الأمر أن يَسُنَّ قوانين تشريعية تَبنّياً من الشريعة لا ابتداء) كما يقول «الأستاذ الدكتور محمد أحمد علي مفتي»؛ وتنحصر مهمة القاضي في تنفيذ ما نص عليه القانون لا ما تُمليه عليه اجتهاداته وقياساته، حيث (يُحضَر على القاضي أن يُنشئ جرائم وعقوبات من نفسه بحيث تنحصر مهمته بتطبيق النص القانوني المحدد من قبل المشرع على الواقعة المطروحة أمامه) . وهذا معنى المقولة المتداولة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)؛ وكذلك ما نصت عليه المادة (الثامنة والثلاثون) من النظام الأساسي للحكم في المملكة التي تقول: (العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي أو نص نظامي ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي).
وقد حَدّد نظام (جرائم الإرهاب) كما جاء في تصريح معالي وزير الثقافة والإعلام: (المراد بالجريمة الإرهابية بأنها كل فعل يقوم به الجاني تنفيذًا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي بشكل مباشر أو غير مباشر، يقصد به الإخلال بالنظام العام، أو زعزعة أمن المجتمع واستقرار الدولة أو تعريض وحدتها الوطنية للخطر، أو تعطيل النظام الأساسي للحكم أو بعض مواده، أو الإساءة إلى سمعة الدولة أو مكانتها، أو إلحاق الضرر بأحد مرافق الدولة أو مواردها الطبيعية، أو محاولة إرغام إحدى سلطاتها على القيام بعمل ما أو الامتناع عنه، أو التهديد بتنفيذ أعمال تؤدي إلى المقاصد المذكورة أو التحريض عليها).
وعندما تُترك النوازل والمستجدات دون ضبط وتقنين نَدخل في متاهة (الاجتهادات) والتـأولات وتخريج القضايا تخريجاً قد يمس بمقتضيات الضبط الاجتماعي، بل قد تَشُطُّ بعض الاجتهادات بعيداً وتنسف العدالة ومبدأ المساواة برمتها. حتى أن (قاضياً) من القضاة العاملين في السلك القضائي في المملكة احتجّ (علناً) على حكم صدر على أحد المتهمين بالإرهاب بحجة أن المتهم (طالب علم)، واستند في احتجاجه إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، واعتبر أن ما اقترفه طالب العلم هذا من انتهاكات للسلم الاجتماعي في البلاد مجرد (عثرة)، ويجب أن يُفعّلَ فيها منطوق الحديث آنف الذكر، ونحّى عن قصد أو ربما عن جهل قوله صلى الله عليه وسلم : (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)؛ ولكي لا يدخل مجتمعنا في مثل هذه التجاذابات والرؤى والتأوّلات والاجتهادات، ويقف الجميع أمام الشريعة متساوين كأسنان المشط، كان لا بد من (تقنين الشريعة) لتنفيذ (مقاصدها) ومنع أصحاب الأهواء من التلاعب بالأدلة والنصوص ولي أعناقها وإفساد العدل .
يقول شارح الطحاوية : (دلّت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية).
بقي أن أقول : إن ما شهده ويشهده عهد الملك عبدالله من أنظمة شرعية معاصرة في مجالات مختلفة، هي من أهم سمات عهده الميمون، وهي بمنطق العصر تكريسٌ وتجذير لدولة (الشريعة المقننة)، التي لن تستفيد منها بلادنا وتُثري استقرارنا وتقطع الطريق أمام (الانتهازيين) فحسب، وإنما ستمتد الاستفادة منها إلى كل من أراد أن يجعل شرع الله منهجاً لقوانينه حسب متطلبات العصر.
إلى اللقاء