أحسب أنّ الإنسان إذا تقدّم به العمر، أو ازداد بسطة في العلم، أو أكسبته الحياة وهجاً زاهياً وفيضاً زاخراً من خبرتها وتجاربها، صار في هذه المرحلة بمرتبة رفيعة من النضوج والفهم والرصانة.
ولكن الطبائع والعادات غالباً ما تصاحب وتلتصق بصاحبها مدى العمر بسلبياتها وإيجابياتها، فتأسره وتجعله لا يستطيع عنها فكاكاً.
فإذا اعتاد البخل فمن الصعب أن يتحرّر من هذه الصفة الذميمة ولو أقبلت عليه الدنيا بلا حدود، وإذا طبع سلوكه الغرور وشبّ على ذلك.
أصبح الخيلاء والكِبر ظله الذي لا يفارقه، وإذا عشق المظاهر وحب الظهور، فإنه يؤثر الإطراء والمديح على التواضع وإنكار الذات.
والدليل نأخذه - مع الفارق - من هذه القصة القصيرة الواقعية الطريفة التي ربما أضفى عليها خيال راويها بعض الرتوش ..
قامت إحدى البلديات في إحدى المدن العربية الكبرى بخطوة معنوية وذلك من باب الاجتهاد والتقدير، فقامت بتسمية أحد الشوارع الفرعية داخل أحد الأحياء باسم ساكنه عندما علمت أنه - أستاذ جامعي - وله شهرة في الكتابة والبحث والدراسات الأدبية.
ففاجأته بوضع لوحات صغيرة في أجزاء من الشارع تحمل اسمه فقط دون مهنته أو ألقابه كعادتها في تسمية الشوارع. وعندما رأى ذلك بادر من الغد إلى الإدارة المختصة في جهاز البلدية وقابل المسؤول التنفيذي، وطلب إضافة كلمة - دكتور - تسبق ذكر اسمه في اللوحات، وتجاوب معه وأضيفت الكلمة. وبعد مدة تذكّر أنه أديب وشاعر وهما مجال شهرته.
فذهب إلى البلدية وطلب منها إضافة الأديب الشاعر - وبعد إلحاح منه أضيفت هذه الكلمات إلى اللوحات المتناثرة فامتلأت اللوحة عن آخرها.. وعندما زاره بعض أصدقائه قرأوا ملياً ما كُتب في اللوحات وانتقدوه على هذا المسمّى العريض الطويل، وقالوا له لو اكتفيت بمسمّى مختصر، وبصفتك دكتوراً وأستاذاً وتجمع هذه المسمّيات كلمة - بروفيسور - لكان ذلك أبلغ وأرفع ..
ومن الغد ولم تصل الشمس إلى كبد السماء، إلاّ وهو يستبق المراجعين في طليعة الطابور، فيدلف إلى المسؤول الذي عقد معه صحبة من كثرة مراجعته حول - طيبة الذكر.. اللوحة.. وبعد مناقشات ومداولات حول طلبه الأخير واختصاراً للوقت والجهد واحتياطاً للمستقبل، طلب رئيس القسم حضور الموظف المختص عن تنظيم وتوزيع اللوحات، وعند حضوره وعلى مسمع من البروفيسور.
طلب منه إعطاء سعادة البروفيسور رزمة كبيرة من اللوحات الجديدة الخام، ليكتب الصفات والألقاب التي يريدها أو حتى يستبدلها كل يوم..
وبعد أن تحقق طلبه خرج مع سائقه وهو يتأبّط تلك اللوحات الخضراء المستطيلة ليأخذ طريقه إلى أحد الخطاطين المنتشرين في الشوارع ليعقد معه صحبة ليكتب له ما يريد وليريح ويستريح.