عرض وتحليل: عبد الله الصالح الناصر الرشيد
مقدمة:
كان الشعر العربي ولا يزال مرآة تجارب الشاعر وخلاصة آرائه وأفكاره في المجتمع والحياة، فلا غرو إذا جاء شعره حافلاً بألوان الحكمة ومشبعاً بفيض من المشاعر الصادقة الصريحة، وبالطبع فإن الشعراء يختلفون في الأصالة والعمق والنضوج وهذا يرجع إلى عوامل مختلفة ليس هذا مجال عرضها وتفصيلها، وإنما الذي ننشده ونهدف إليه في هذه العجالة هو القول إن الشعر لم يكن مقصوراً على شعراء اللغة العربية الفصيحة، بل كان للشعراء الشعبيين نصيب وافر منه.
وهذا يؤكد لنا أن الشعر موهبة فطرية تكون عند شعراء اللغة العربية الفصيحة واللغة العربية العامية، لأن كلاً من هؤلاء الشعراء رغب في تصوير مشاعره وأحاسيسه وعرض آرائه وأفكاره وتجاربه بالأسلوب الذي يجيده ويرتاح إليه.
وقصة الحياة وفصولها تمر على كل واحد من هؤلاء الشعراء ولكن كما قلت يختلف تصوير كل فئة منهم لها بالأسلوب فقط دون الجوهر وأعني به المعنى.. ولما كان الشعر العربي الفصيح غني عن التعريف بجزالته وسمو أفكاره، فإنني في هذا المقال سوف أعرض بشيء من الإيجاز للنوع الثاني من الشعر وهو الشعر الشعبي أو الشعر النبطي كما يطلق عليه أحياناً، وقد وجدت مثالاً صادقاً لهذا النوع من الشعر وذلكم في كتاب صدر في الآونة الأخيرة بطبعته الخامسة بعنوان (شعراء من الرس) من تأليف الأستاذ فهد المنيع الرشيد - وأرجو أن أوفق في إعطاء نبذة مختصرة عن قيمة هذا الكتاب وآتي على إعطاء فكرة عن موضوعه مستمداً من الله العون والتوفيق.
الكتاب وموضوعه:
الكتاب يتعرض بشيء من التفصيل لشعراء جزء عزيز من بلادنا هو محافظة الرس فيأتي على تصوير حياتهم وترجمتها بدقة وإيجاز، ويعطي مختصراً مفيداً من إنتاجهم وهو ما يكون غالباً مصوراً لآلامهم وآمالهم ومعبّراً عن تجاربهم في الحياة، والشعراء الذين تعرض لهم الكتاب يبلغ عددهم أربعين شاعراً وشاعرة وهؤلاء هم مشاهير شعراء هذه المحافظة وليس كلهم في مجال الشعر النبطي والكتاب في أكثر من أربعمائة صفحة وفيه مقدمة ضافية عن أهمية الشعر النبطي وتاريخه ودوره في الحياة الأدبية للأمم والشعوب، كما يحتوي أيضاً على تعريف شامل لمدينة الرس وتصوير تاريخها قديماً وحديثاً وقد بذل المؤلف جهداً يشكر عليه ويستحق من أجله تقدير كل مواطن حريص على رفع معنوية بلادنا الأدبية وإحياء تراثها والعناية به ويا حبذا لو أن كل شاب مثقف في كل جزء من بلادنا العزيزة حذا حذوه وأعطى فكرة شاملة عن الحياة الأدبية أياً كان مستواها في الجزء الذي يعيش فيه، هذا والله أرجو أن يأخذ بيد الجميع إلى خدمة الوطن ورفعة شأنه في كل ما يحقق له المجد والسؤدد في جميع مجالات الحياة.
الشعراء
قلت سابقاً إن الكتاب يضم مختارات من إنتاج أربعين شاعراً وشاعرة من شعراء هذا الجزء العزيز من بلادنا وهؤلاء الشعراء منهم القدامى ومنهم المحدثون ومنهم الشباب ومنهم الشيوخ، وأكثرهم كما فهمت من تراجمهم قد انتقلوا إلى رحمة الله، ولولا أن قيض الله لهم هذا الإنسان المثقف فترجم حياتهم ونشر نتاجهم لذهبوا دون أن نعرف عنهم شيئاً ودون أن نحفل بإنتاجهم ونبقيه ذخيرة حية شاهدة على مقدار ما بذلوه من جهد، ولا سيما أن معظم شعرهم حافل بألوان الحكمة، زاخر بآيات البطولة والنخوة العربية الأصيلة، وهؤلاء الشعراء يتفاوتون من حيث قوة الإنتاج، ويتفاوتون أيضاً من حيث المعاني التي تطرقوا إليها في شعرهم ومن هنا نأتي على استعراض إنتاج بعض هؤلاء الشعراء، ولنبدأ بالشاعر سرور الأطرش.
وهو أحد الذين عرفوا بخصوبة الشعر وغزارة الإنتاج وقد اختار المؤلف من أشعاره باقة لا بأس بها منها قوله:
مدري علام اللي جميل خياله
يصد عني يوم بالسوق أوافيه
متولع به يوم عصر الجهاله
واليوم هذا الشيب بانت مواريه
ترى العشير إلى نوى بالفساله
تراه ما تصطي عيوني تراعيه
حتى لساني ما يرد النباله
والقلب عن تبع المقفين ناهيه
يا تابع المقفى عسى العوق فاله
خله على دربه والاقدار ترميه
تصير عنده مثل نوع الجماله
لا عاد ما بك اسم خير تجازيه
ومن سرور عودة الأطرش ننتقل إلى شاعر آخر من كبار الشعراء في هذا الكتاب ألا وهو الشاعر سليمان الشائع الفتال، وهذا الشاعر على الرغم من أن تفاصيل حياته لا تزال غير بارزة كغيره من شعراء المنطقة فشعره على كل لسان ويحفظه الكثيرون وذلك لعذوبته ورقته وجزالته أيضاً، وقد اشتهر بالشعر الحماسي مما جعله مدعاة فخر واعتزاز لسكان هذه المنطقة حتى وقتنا الحاضر ولكي لا أطيل عليك عزيزي القارئ دعنا نعيش لحظات ممتعة مع هذه الأنشودة الفريدة التي يخاطب بها الشاعر بني وطنه ويستحثهم على النخوة والشجاعة والاستجابة لدواعي الواجب والأنشودة أو القصيدة قيلت في الزمن القديم عن حماية المستجير كما يقول المؤلف، وما أحرانا أن نتذكر هذه القصيدة وأمثالها في وقت نادى عاهلنا المفدى ورائدنا الباني على الجهاد المقدس وتحرير المسجد الأقصى من ربقة الصهيونية البغيضة والقصيدة هي كالتالي:
يا الله اليوم يا جالي الهموم
يا بالافراج يا منشي الغمام
ارحم اللي قزاء ما فيه نوم
وحارب الزاد مع حلو الطعام
يا هل الحزم ديرتكم تلوم
تشتكي الضيم منكم والملام
تبكي اللي يجلون الهموم
راحت أذكارهم شرق وشام
قال (سلطان) كثرن العلوم
كيف أبا أصير بالربع الحشام
قالوا اثبت ترى حقك لزوم
نثني الملح دونك والجهام
من زبنا رقاء روس الرجوم
ما تجيه البيارق والخيام
نجني الملح من روس الحزوم
معتبينه لحزات الزحام
عند فيحان في روس الحزوم
مثل حس الرعد تشغي العظام
في يدينا فرنجي وروم
ذخر الأجداد ذاله كم عام
كان ما نحتمي من كل قوم
حرم ما ها علينا والطعام
طالب الحق نعطيه اللزوم
ومن بغي العق حناله كعام
وبعد هذه القصيدة الحماسية الرائعة التي نشم منها أريج البطولة ونلمس فيها عبارات النخوة والرجولة، بعدها نأتي على ذكر قصيدة غزلية رقيقة شفافة للشاعر نفسه وهي حافلة بالصور والأخيلة والوصف وهي توضح ما للشاعر من قدم راسخة في الشعر العاطفي الجيد والقصيدة تقول:
جرى الدمع من عيني على الخد وانتثر
وبيح كنيني يا هلي دمعي الجاري
أحب الخضر من حيث لي صاحب خضر
وأباهي بزينه جملة البيض واماري
أبو لبه عفراء كما دارة القمر
إلى شعشعت يسري على نورها الساري
نطحني ضحى العيد بمشجر خضر
يجره بردفه جرة الحصن للقاري
سقى الله محبوب سقاني من الثغر
قراطيع من ريقه ولا أحد عنه داري
ولما كان المجال لا يتسع لإعطاء صورة بارزة ودراسة كاملة لكل شاعر على حدة، فإنني أكتفي بهذه اللمحة الموجزة عن هذا الشاعر الجيد الإنتاج إلى شاعر آخر من شعراء الكتاب، والتقي بالشاعر ابن قرناس أحد أفراد عشيرة القرناس المعروفة بالرس والمشهورة بالكرم والإباء التي كان منها رجال خدموا الرس خدمات عظيمة وكان منهم القضاة والأمراء والشاعر الذي نحن بصدد الحديث عنه شاعر مقل وتطغى على شعره الصبغة العاطفية، وقد اختار المؤلف الكريم نخبة لا بأس بها من شعره أخذت منها هذه القصيدة:
يا نور عيني صابني منك تجريح
والجرح ما يبريه غير الصدوقي
مني مساك الخير يا طيب الريح
الله يصبحكم بحسن الوفوقي
أهلا هلا بك عند رمل الصحاصيح
أو ماهتف وبل يسقي العروقي
ترحيب مني بالخشوم المراويح
وان شاف بالقبلة رفيف البروقي
ان كان مثلي بالمودة فأنا ريح
وان كان جافيني فهو بارسوقي
عساك ما تجفان با بوتفافيح
يا بو ردوف مثل شط الفروقي
يا بو قرون عقبن المطاويح
كاسيه مثل مرجمات العذوقي
ومن الشاعر ابن قرناس نأتي إلى الشاعر عبد الله الحرير أحد الشعراء المجيدين والذين يحفل شعرهم دائماً بالحكمة والرأي الصائب، مما جعل الكثيرين يتمثلون بشعره في كثير من المناسبات ومن قصائده التي تثبت مصداق كلامنا هذا هذه القصيدة التي ينصح فيها بالابتعاد عن معاشرة رجال السوء واختيار الأصدقاء الأوفياء وفيها يقول:
أنت إلى منك جهلت فلا تسال
انتظر للمرء هو ويا الجليس
ما يجلس مع الرجال إلا الرجال
ولا يجلس مع الخسيس إلا الخسيس
وانت لا تأمن مقاعيد الرزال
كود إنك تأمن الأفعى النديس
والدنس يعديك لو هو عقب حال
عقب منتب طاهر تنكس وطيس