** نفهمُ أن يتملقَ السياسيُّ ناخِبَه ويتزلفَ التابعُ لمتبوعه ويمتلئَ الفضاءُ الكتابيُّ بمن يقرأُ رغائبَ جمهوره في ممارسةٍ “ديماغوجيةٍ” مألوفةٍ لا يختصُّ بها زمنٌ ولا تنحصرُ بين أقوام، والفهمُ لا يعني التبريرَ ولا المُسايرةَ ويقفُ عند التوقع والتحقق، لكنَّ ما يستعصي على الفهمِ التلبسُ بالشخصيةِ “المدمغجةِ” في صورِ الدفاعِ عن الموقفِ والاندفاعِ في التأييد عبر أقلامِ وأفواهِ مزدوجِي الاقتناعِ والسلوك ليبقى متصالحًا مع الحدِّ الأدنى من المسؤولية من يُنزهُ المبادئَ عن لغته كي لا يعزفَ عليها أوتارَه المسكونةً بالتملق والساكنةً في نطاقات التلوّن.
** اعتدنا نماذج التنظير المظهري ونعتادُ البراءةَ المستترةَ بصفتهما نموذجين متضادين يتقابلان فيلتفَّان حول الشارع ويحاصران المُشرِّع، لكننا لن نعتادَ الجماهيرَ التي تقودُ تجاربَها دون رموز وتسيرُ إلى غدها مطفأةَ الأعين، وبقياس تجارب الجيل المكتهل فقد وعَوا نماذجَ في بعضِ سياسييهم وإدارييهم ومثقفيهم لا يخالفُ سَمْتُهم سماتهم ولا يتقاطعُ صوتُهم مع صيتهم، ومن يتأملُ سيرَهم يزدادُ إعجابًا واقترابا.
** تلقى المؤلفاتُ المختصةُ بالسير المنتقاةِ انتشارًا لدى القراء وبخاصةٍ إذا اتجهت من السردِ التأريخيِّ والمهْنيِّ إلى التحليل والتأصيل، إذ تقدّم قراءاتٍ نوعيةً ربما لا تكون موضوعيةً بشكلٍ مطلق لكنها تتميزُ بتجاوزِ المجاملةِ الباردة والحيادية الباهتة.
** لا نحكي هنا عن كتب التراجم والأَعلام فلتلك مظانُّها ولها غاياتُها وإنما عن الكتبِ البحثيةِ في الشخصيات العامة المتأثرةِ غالبًا بالانتماء السياسيِّ والعِرقيِّ والمذهبيِّ والآيديولوجيِّ وهو ما لا يستطيع تجنبَه المؤرّخون وكاتبو السِّير عبر الأزمنة والبيئات، والمخرجُ قراءةٌ شموليةٌ لا تكتفي برأيٍ أحادي وتضمُّ إليه ما يتوافر من قراءات أخرى إذا لم يكن البحثُ التأصيليُّ ممكنا.
** ولنأخذ أمثلةً عابرةً في شخصياتٍ مختلفٍ فيها كالدكتور أحمد زويل من العلماء ويوسف شاهين من الفنانين وأنيس منصور من المؤلِّفين ومحمد شكري من الروائيين؛ إذ تمتدُّ الرؤى الانطباعيةُ حولهم بين تطرفٍ ونقيضه أو بين من يضعهم في خانة التميز المطلق ومن يهوي بهم إلى قاعٍ مغلق، فزويل أبرزُ عالم عربي في مجاله عند بعضٍ وصنيعة إسرائيليةٌ في نظر آخرين، وشاهين عبقريُّ المخرجين لدى محبيه ونرجسيٌ ذو توجهٍ تغريبيٍ لدى غيرهم، وكذا منصور فهو عميد الكتبة كما يراه أناسٌ ورقمٌ بلا دلالة في اقتناع سواهم، وشكري فاتحُ المغارة السِّيريةِ السريَّة في نظر جمهوره ورائد الكتابةِ الفاضحةِ في أنظارٍ مغايرة، وهذه نماذجُ معاصرةٌ مرئيةٌ للاستشهاد المجرد، وفي المُشاهَد والمقروءِ ما يتمدد ويتعدد.
** الوقوف في إحدى الضفتين المتقابلتين تجاهلٌ للنهر المتدفق بينهما والمصبِّ الذي يجمعُهما، وهو ما يختصر الضَّلال المُوجَّه المعنيَّ باللحظةِ والمصلحة والمشاعرِ غيرِ المبرَّأةِ من الخلفيات الشخصيةِ والاجتماعية والانتماءاتِ الفكرية والسياسية المغلفةِ بالشنآنِ الجليٌ أو الخفيِّ لتتفوّق الدراساتُ المحايدة التي تعرضُ المعلومة وتدعُ للقارئ حقَّ المحاكمة، وبذا تتحقق الوسطيةُ الدالةُ على العدل لا تلك الواقفة في المنتصف فقد يحرفُ التيارُ المسار.
** القراءةُ عينان.