** روى “أبو حيان التوحيدي” في “مثالب الوزيرين” عن الشاعر أبي الحسن الغويري أن الصاحبَ بنَ عبّاد يكره ذكرَ فاضلٍ لديه وإن ذُكر وجب تفضيلُه عليه فيُقال له عند الحديث عن الشعراء: أين مسلمُ بنُ الوليد منك؟ وفي النحو: وصلتَ إلى ما لم يصل إليه سيبويه، وما وزنُ الجاحظِ عند مثقالك؟ وأشار إلى أنه يرى نفسه أعلم من سحبانَ في البيان ومن أبي حنيفة في الفقه ومن النظَّام في الكلام، وقال إنه لا يعرفك إلا عند امتلاء العين ولا يعطيك إلا إذا أخذ أكثر منك والويل لك إن أصبت والويل لك إن أخطأت.
** كان أبو حيان مدفوعًا بعامل شخصي حين لم يجد لدى الصاحب بعدما قصده في “الري” ما أمَّله منه: “حرمني فازدريتُه وحقرني فأخزيتُه وخصَّني بالخيبة التي نالت مني فخصصته بالغيبة التي أحرقته” ولم يبرئْ نفسه من “دبيب الهوى وتسويل النفس ومكايد الشيطان وغريب ما يعرض للإنسان”، والسؤال هنا: فلم الكتابُ إذن؟ وما الذي احتوته أكثرُ من خمسمئة صفحةٍ من المهاذرة والمحاصرة مادام كاتبُه الأعلمُ به يصفُ ما اعتلجَ في صدره وبان في سطره بمثل هذه الشخصَنة المريضة.
** ليس المقامُ لمحاكمة أبي حيان فقد مضى بما له وما عليه، وماله -لا ريب- أكثر، لكنها الممارسة التي لم تتبدل منذ الأزل؛ فمعظم ما يُذاعُ من انتقادات مسكونٌ بإملاءات التحيز من جانب وادعاءات التميز من جانب في خليطٍ مكوناته “أبو حيان والصاحب” معًا، وقد تخالطُ بعضَ ذويه أمراضُ الهوى محتمين بشعاراتٍ ورايات، ولو واجهتهم حقيقتُهم لشغلتهم سوءاتُهم، وفي مثل هذه الأجواء يرتبك الإصلاحُ ويتوارى المصلحون.
** ربما استطاع أبو حيان المسَّ بصورة الصاحب وابن العميد لكنه لم ينل تأريخَهما الحقيقيَّ بما فيه ومن فيه وبقي الكتابُ سُبةً بحق المنهج العلمي الذي قد يأذنُ بمقال لكنه لا يأذن بمقامٍ، ولا غرابة إن ساد حواراتِنا مع مجموعات الأصدقاء القلقُ على الجيل الطُّلَعةِ مما ورثوه من تراثهم وما يرثونه من رموزهم وعبر متابعاتهم حتى استمرأُ ثلةٌ فيهم الفجورَ في الخصومة والرداءةَ في اللغة والتسطيحَ في التناول.
** عِبنا نقائضَ الشعر قديمًا وسجالات بعض الكبار حديثًا، وربما طُمرت آثارهم المتجاوزةُ بوعي القارئ، وظللنا نذكر بيان إمام العربية “مصطفى صادق الرافعي” ثم نقفز غير آبهين بكتابه (على السَّفُّود) الذي غلَّفه رحمه الله بغيرته على إعجاز القرآن الكريم وكانت حقيقتُه انتصارًا لذاته من غريمه العقاد:
وللسفودِ نارٌ لو تلقت
بجاحِمها حديدًا ظُن شحما
ويشوي الصخرَ يتركًه رمادًا
فكيف وقد رميتُك فيه لحما
وكذا توارى كتابان مهمان في زمنهما ليصبحا حكايةً عابرةً يمرُّ بها الدارس ولا يستقر عندها الدرس، وكذا يبدو صوتُ التنشئةِ وصمتُ الامتلاء.
** الانزواء خيرٌ من الانضواء.