** اعتاد إقفال هاتفه عند العاشرة مساءً وفتحَه حين يستيقظُ فجرًا، ولم يكن فجرُ الأحد ككل فجر؛ فقد حمل الناعي الخبر الذي ظنه نائيًا فما عهدُه بأستاذه بعيد وإن قصُر الدرب دونه حين تغير موعدُ الإجازة الأسبوعية فتخلف عن جلسته المنتظمة، واستعاد ذاكرة العلاقة الجميلة التي وصلته به منذ ثلاثة عشر عامًا حينما حاوره في أولها لصفحتيه «واجهة ومواجهة»، وعندما كان «معالي الوزير» يتصل به ليبثَّه ألمًا كامنًا مما يسطره بعضُ الناقدين والناقمين؛ ربما ليُفرغَ بعضا من مكنون صدره مع من «يواسيه أو يُسليه أو يتوجعُ» معه، وبعدما صار صاحبُكم أحد مرتادي جلسته» السبتية»، وترافقا في رحلةٍ يمنيةٍ «حضرمية»، وشهد كثيرًا من مناسباته الخاصة في مزرعته» المشاعلية»، وربط بينهما الكتابُ وشجونه فأشرف على إعادة تحرير وتبويب وطباعة كتابه الأخير، وتيقن بعدما عرفه مما قاله يوم «واجهه»: ( 6 يناير 2001م):
أما الواجهةُ فمعرفيٌ أرّقه الهم فأوغل في اليمّ
وأما المواجهةُ فترحالٌ عفويٌّ في بحر لُجِّي
تقرأُ الصدق في حماسته
وتتلمسُ الصداقة من بساطته
ويبقى الواقع أفقاً ممتداً
يسمي الحقيقةَ وضدَّها
ويرضى الإِلفَ ونقيضَه.
***
جادٌّ في التغيير
مندفع نحو التطوير
عمِل وظلّ
وتفانى ولم يملّ
فالحلم لا يعني التحقق
والنهر يكفيه التدفق
والرياح تسيِّر السفن
فهكذا أثبت أبو مُحسِّد
وهكذا أكد الشجن.
***
** في مفرداته وضوح
وفي طرحه تصريح وتلويح
لا ينفي الخطأ
ولا يدافع عن العِثَار
فلديه الشجاعة
كما يمتلك القرار
وإن كثر حوله عاشقو الهدوء والاستقرار والتسويف والانتظار.
***
** أسماه في كتابه» إمضاء لذاكرة الوفاء»: العاصفة الهادئة، وقال فيما كتبه عنه:
** جاء إلى المشهد المجتمعي؛ تسبقه وترافقه وتلحقه عاصفة أثارت الغبار، وحجمت القرار، وتفاعل معها الحوار؛ فأحبه من أحبه، وقلاه من قلاه، وصار ميدانا لتجاذب الساحات التي لم تبق فيه ولم تذر؛ فظل هادئا، متواضعا، بسيطا، ورغم أنها سنون عشر؛ فقد مرت كحلم لا نعلم إن كنا قد صحونا منه بعد.
** كانت لديه نظرة ونظرية، ورأى أنه أمام مسؤولية تاريخية للتغيير والتطوير؛ فابتدأ من يومه الأول متفائلا بوسط قادر على مده بالعون كي نلحق بمن سبق، لكن الزمن لم يكن الزمن، والناس لم يعودوا الناس، ولا مقام لمن تمنهج بل لمن تأدلج، ودخل في بحر لجي، فغشاه موج من فوقه موج، وحاربه روم ٌمن خلفهم روم، ولم يفقد إيمانه بالخروج من الدلجة يوماً؛ فعليه أن يسعى، ولا بأس إن لم يبلغ الشاطئ بنفسه فربما قامت أجيال بعده بما حجبه عنه تيار مقاوم عنيد شديد.
** العاشق مشوق ولو لم يلقَ العاشقين، بخلاف زعم الشاعر القديم، فلم يسلُ أبو أحمد أو يتسلَّ؛ إذ التربية همه وإن أوهنته أو أوهمته فغادر كرسي الوزير ليحمل قلم الكاتب والباحث؛ يطرح رؤاه - هذه المرة - بجرأة، ويعتب على بعض بني قومه الذين محضهم النصح بمنحنيات التوجه وآن أن يستبينوا الرشد بفضاءات التوجيه، ولم يُخفِ مرارةً ممن شكَّ وشكا وشاك، لكنه مطمئن إلى أن في متصرفات الفعل من شكر ومن سيشكر، وقد قال من أنصف: إن وزارة الرشيد كانت الأهم بقياس المحاولة والجدة والجدية وفرق العمل والهيكلة وحتى بأبعاد الحرب والحراب التي صمد أمامها؛ فقد كفاه أن أرضى ضميره المهني، وما عناه حُرَّاس الخوف والتقليد.
**
** وعى الجميعُ تواضعه وابتسامته وكرمه واحتفاءَه بأصدقائه وقيامه بما يُمليه عليه خُلُقه السمحُ وروحه المضيئةُ، وشهده صاحبكم في السفر وفي النُّزهات وهو أسبقُنا إلى المصلى مقيمًا الصلاةَ بندائه غير عابئٍ بما قيل فيه أو دُسَّ عليه، مؤمنًا برسالته التربويةِ التي لم يخذلها في كتاباته وكتبه ووعيه وسعيه؛ تاركًا للتأريخ الموضوعي حقَّ الحكم عليه، واثقًا ألا كمالَ للإنسان، طامعًا في رضا الله قبل رضا البشر.
** غاب أستاذنا الدكتور محمد بن أحمد الرشيد بهدوء، وتركنا مع فجع الفقد وفُجائية الوداع ويقين الدعاء بأن يسكن الله «أبا أحمد» عليين ويجبر مصاب ذويه ومحبيه.
** الحياةُ تذكرةٌ وذكرى.