** يَستفهم منه بعضُ الناشئة عما يمكنُ أن يُوصَوا به حول ما تلائمُهم قراءتُه، ولا تزيد إجابتُه عن « كلِّ شيءٍ وأي شيءٍ» ذي بال؛ فالتوجيه المبكر يئدُ الذهن المتقدَ القابلَ للتلقي والفهم، ومرحلة الفرزِ المتأخرة هي المُحددة للميولِ والاتجاهات ومن ثَمَّ فهي المسؤولة عن التخصص القرائي اللاحق، وندم صاحبكم على زمن الذاكرة النشطة التي لم يستفد منها لحفظ جميل الشعر العامي لارتباطه - حينذاك - بشبهة هجر الفصحى والإبحار مع تيار عُداتها، وفي المقابل لم يلتفت للتراث القديمِ إلا بقدرٍ يسيرٍ لظنِّه جموده وتوقّف الحياة بعاشقيه.
** ربما كانا ضِدَّين في الوسيط مَعَويين في الفحوى أثَّر افتقادُهما صغيرًا في تضاؤل المخزون منهما كبيرًا، وهو ما سيُواجهه من يُقادون إلى قراءاتٍ منتخبة لا تُراعي طبيعة تكوينِهم بدءًا ولا تستجيبُ لتطلعاتهم منتهى.
** كان زمنُنا قابلًا للتوجيه اليُسري والقَسري مختلفًا عن هذا الزمن الذي لم يعد أحد مختارًا فيه: ماذا وكيف ولماذا يقرأ، ولا ميزة لزمنٍ سلف على زمنٍ خلف؛ فكلٌّ يحمل ملامحَه معه، والحياة نقصٌ يُعْوزه اكتمال، والأحياءُ شبابٌ يُرشِّدُه اكتهال، والمسطرة تصلح لقياس السطور لا اختبار الصدور.
** القراءة نموذجٌ للاختلافِ الجِيلي والذهني والمرحليِّ، وقد نندمُ وأبناؤُنا أن أضعنا عمرًا لم نستفد منه، واعتمرنا شعاراتٍ لا وزن لها، وعبرنا العصرَ الورقي نحو العصرِ الرقميِّ، وتبدلت مسافاتُ أعيننا بزوايا حادة نصفِ مفتوحة تلمعُ في حدقاتها أضواءُ الأجهزة التقنية، وامتدت مسافاتُ تواصلِنا لتربطنا بالعالم كلِّه إلا أنفسنا؛ فارتُهنَّا لعالمٍ افتراضي يسكنُ معظمَ مساحاته الغَلَس والفَلس؛ إذ أكثرُنا لا يقرأ وبقيتُنا لا تستقرئ، ومعظمنا لا يُنصت ولا يصمت، وفينا من لا يَرى ولا يَروَى، وهو ما يطالُ استفهاماتٍ مهمة عن الخارطة الثقافية حين يتوارى الكبارُ ويشغلُ الواجهة الصغار.
** تبدلُ العادات القرائية جزءٌ من التبدل العام في الأمزجة والتعاملات والعلاقات والاهتمامات، ويحتاجُ إلى تتبعٍ يرصدُ أبرز مظاهرها؛ إذ ربما وعينا أسبابها لكننا لا نتنبأُ بنواتجها وانعكاساتها؛ فالدراساتُ التأصيلية في العلوم الاجتماعية نادرة، وما يرشحُ من هذا النادر ناءٍ عن رعاية مراكز القرارات التربوية والاجتماعية والإعلامية.
** ليس المقامُ للمفاضلة بين زمنين أو بين موقفين، فلا حقيقة مطلقة في غيرِ ما يمسُّ ثوابتَ الإجماعِ، وهي محدودة ومعدودة، ومعظم خلافاتنا - كما رأى علي الوردي - ليست بين حقٍ وباطلٍ بل بين حقين يراهما المتفرجُ النائي عن التحيزِ والتحشيد، والإشكالُ في المعايير التي تُوزنُ بها القضايا، ولو أخذنا القراءة نموذجًا لما أحرقنا البخورَ للماضي أو أقمنا المناحة على الحاضر إذا استطعنا الالتئامَ حول وضعِ مقاييسَ للثقافة قد تخلو من الكتاب المطبوع لو افترضناه أساسَ التميزِ السالف، وأوجدنا بدائلَ ترتقي لتكون قواسمَ مشتركة يصحُّ بها توصيفُ المثقف دون الدخول في أنفاق التصنيف أو الاتكاءِ على مفاهيمَ جامدة.
** التبدلُ أزلية حياتية.