طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ... كم هو صعب تلقي خبر فقدان عزيز وحبيب، والمرء بعيد عن دياره وأوطانه. «عظم الله أجرك في صاحبك»، هكذا جاءتني التغريدة، فقلت ومن هو؟ قال محمد الرشيد، قلت الوزير؟ قال نعم. فهبط علي صمت مطبق وأسف في تفكر. فلم تطل مدة معرفتي بالدكتور المربي الفاضل محمد الرشيد فقد اختصرها الموت سريعا، وما كنت أحسب أن هذا سيقع سريعا و»كأنّ المَوْتَ لم يَفْجَعْ بنَفْسٍ ولم يَخْطُرْ لمَخلُوقٍ بِبالِ».
سمعت بمحمد الرشيد أول مرة عندما كان وزيرا للتربية والتعليم زمن الغفلة، التي كانت تسمى بالصحوة. وكنت وما زلت، قليل المعرفة بأسماء الأمراء والوزراء فضلا عمن دونهم من المسئولين، ما لم يصادفني موقف خاص مع أحدهم، أو يكون ممن يتكرر اسمه كثيرا في الإعلام. ولكن اسم محمد الرشيد ظل عالقا في ذاكرتي لعشرين عاما تقريبا، قبل أن ألتقي به شخصيا وأعرفه عن قرب. فقد كنت في تلك الحقبة الضائعة من عقل هذه الأمة والتي سميت آنذاك بالصحوة، أسمع عنه هنا وهناك ممن يهاجمونه على إصلاحاته التعليمية -ممن يسمون أنفسهم بالإسلاميين-. ثم جمعني لقاء خاص بأحد مشاهير دعاة الإسلاميين آنذاك، فكان مما سمعته منه ثناءه وتبجيله للوزير محمد الرشيد على جهوده الإصلاحية في وزارة التربية والتعليم. فاستغربت حديثه، فقلت له: ولم لا تدافع عنه علنا، والوزير قد يهاجم في مجلسك وأنت لا تحرك ساكنا، رغم مكانتك وصوتك المسموع بين جمهور الصحوة؟ فتعذر الداعية بمعاذير، -صرت أفهمها جيدا اليوم-. وكنت آنذاك لا أعرف سبب الهجوم على الوزير ولم أكن أهتم بتلك الأمور عموما فقد كنت غارقا في مجلدات الكتب الصفراء. ولكنني بعد موقف هذا الداعية الإسلامي الشهير، استطعت أن أفهم قضية وزير المعارف. فمحمد الرشيد كان رجلا فطنا يحمل هم قومه وبلاده، ولم ينم على هذا الهم ككثير غيره، بل قام به، فناله ما ينال كل فطن مصلح يحمل هم قومه ووطنه، ففيه وفي أمثاله قالت العرب «أفاضل الناس أغراض لذا الزمن... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن».
وأما معرفتي الشخصية به رحمه الله فلم تبدأ إلا منذ سنتين تقريبا فقط. وذلك عندما دعاني - رحمه الله- لسبتيته التي يعقدها في منزله لإلقاء ندوة عن حكم الربا في النقود الحديثة. ومن ذلك الحين، وهو لا يترك مناسبة ولا فرصة إلا ويدعوني إليها، رحمه الله. وقد حصل أن جمعتنا الأقدار عدة مرات في بعض البلدان خارج السعودية، فما أن يعلم بهذا إلا ويصر على دعوتي إلى مأدبة غداء أو عشاء راقية، يقيمها من أجلي خاصة. وقد حاولت أن أجاريه مرة -رحمه الله- فقبلت دعوته على عشاء في إحدى الدول الأوربية، ثم اختلست إلى مدير المطعم فأعطيته بطاقة الائتمان ووعدته بإكرامية جزلة على أن يستخدم بطاقتي لدفع تكاليف تلك المأدبة. ويظهر أنني لم أحسن تقدير حجم كرمه رحمه الله في الجود بالغالي النفيس، كما لم أحسن تقدير ردة فعله رحمه الله عندما علم بذلك وامتعاضه الحقيقي لما فعلت، فقد كان سخاؤه جبلة لا تصنعا». وللنفس أخلاق تدل على الفتى... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا».
أضاعت كثرة الأسفار نصيبي من لقيا الوزير المربي الفاضل رحمه الله، فلم أسعد كثيرا بصحبة أبي أحمد رحمه الله فكان حظي منه حظ الحبيب المحروم «نَصيبُكَ في حَياتِكَ من حَبيبٍ نَصيبُكَ في مَنامِكَ من خيَالِ».