أقيمت في جامعة هارفرد ندوة بعنوان إسكان الثورات العربية. والمقصود توفير السكن اللائق للشعوب العربية عموماً لضمان استقرار البلاد العربية بعد الزلازل التي حدثت بسبب انهيار بعض الأنظمة السابقة، وقد تحدث المشاركون ومنهم وزيرة الإسكان التونسية، واتفقوا على أن الاقتصاد هو المحرك الحقيقي لاستقرار الدول، وأن الإسكان هو من أهم مكونات الاقتصاد التي تهم الشعوب. وهذه حقيقة معترف بها عالمياً، ولذا حرصت الدول المتقدِّمة على توفير الأنظمة وإتاحة الوسائل لتسهيل وتمكين شعوبها من امتلاك منازلها. فامتلاك المنزل من أهم مسببات الاستقرار والشعور بالانتماء للوطن، ولذا كان شيابنا ينهون أبناءهم عن امتلاك منزل في أمريكا في فترة الابتعاث الأولى، ولذلك أيضاً حرص المؤسس الأول الملك عبد العزيز- رحمه الله- على توطين البادية.
وكان مما طُرح في هذه الندوة أزمة الإسكان المصطنعة، وقد ضرب الخبير الدولي البروفيسور الأمريكي الذي قدَّم استشارات لغالب دول العالم ومنها السعودية، أمثلة على الأزمة المصطنعة بمصر والسعودية، ففي مصر مثلاً توجد هناك أكثر من مليون ونصف فيلا (على مستوى عال ومتوسط)، جميعها مقفلة ولا يسكنها أحد. وقد ذكر الخبير بعض أسباب ذلك الاحتكار، ثم تطرق بعد ذلك للأزمة السكنية المُصطنعة في السعودية، وذكر أن سبب الأزمة هو احتكارية الأراضي، وأن أمثل الحلول لكسر الاحتكارية هو فرض الزكاة عليها، وقد ذكر بأنه ليس خبيراً في الشريعة الإسلامية، ولكنه لا يعتقد أن هناك ديناً يقبل أو يؤيِّد وضع الأراضي في السعودية ويمنع فرض جباية زكاتها، وقد صدق في هذا. فوجوب جباية الدولة لزكاة الأراضي وهي أظهر الأموال الظاهرة، هو أمر مُجمع عليه بين السلف. فقد أجمع السلف على وجوب جباية زكاة الأموال الظاهرة، وقد تحدثت في مقالات كثيرة عن هذا من قبل، من الجوانب الشرعية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية، فلا أعيد اليوم.
والجميع يعلم أنه منذ سنوات، وهناك أنظمة واقتراحات تروح وتجيء بين الهيئات الحكومية، حول جباية زكاة الأراضي. والجميع كان يعتقد أن أي مشروع لجباية الزكاة سيتم وأده في مهده أو بين دهاليز مكاتب واجتماعات اللجان. فهذا يطالب وهذا يعرقل وذاك يؤجل وآخر يفترض ويُنظر. ولذا لم يتأثر السوق ولا سلوك المتعاملين فيه بما يصدر من إشاعات عن فرض الزكاة.
وجاء خروج وزير الإسكان التاريخي بتصريحاته النارية والواثقة والقوية بقرب موعد جباية زكاة الأراضي، فلا خيار أمام المحتكر إلا البيع أو البناء، التي عبَّر عنها معالي الوزير بمقولته الشهيرة (ابن ولا بع)، وقد كبح السوق -آنذاك- جماحه وتقهقر مؤقتاً بسبب قوة تصريحات الوزير، وصدورها منه شخصياً وهو من كبار المسؤولين التنفيذيين، ولا يُتصوّر أن ينطق الوزير عن تصوّرات أو تخيلات أو أمنيات، وخصوصاً أنها تتعلّق بأمر حساس اجتماعياً وشعبياً وهو حديث الناس اليومي ومشكلتهم الأزلية المؤرّقة لهم. واليوم، وبعد مرور أكثر من ستة أشهر من الصمت والسكون الكئيب الحزين الذي اتبع عاصفة تصريحات الوزير، أدرك السوق أن التصريحات لم تكن واقعية، وأن الوزير صرح بما يشاء وكأنها أحاديث أحد المدونين في الإنترنت.
يجدر بوزير الإسكان بعد تصريحاته التي ظهر من طول العهد بها والصمت الذي أتبعها، احتراماً لمنصب الوزارة وهيبة الدولة وحفظاً لمصداقية الحكومة أن يُفنّد كلامي هذا، ويبيِّن لي وللسوق وللمواطنين بأنني على خطأ، وأنه قد غابت عني حقائق لا أعرفها، فيظهر في الإعلام مرة أخرى كما ظهر في المرة الأولى، فيبيِّن أسباب عدم تطبيق جباية الزكاة إلى اليوم، وأسباب الصمت الرهيب الذي أتبع تصريحاته التاريخية.
تصريحات الوزير خلقت بلبلة في السوق العقارية. والصمت الذي أتبعه يثير الإشاعات ويدمر الثقة ويبني خُططاً على توقعات خاطئة، تضر الاقتصاد كله، وتعطِّل التمويلات الاستثمارية، ثم قد يُجير الضرر والخسارة بعد ذلك على المواطن، فيكون هناك امتعاض شعبي غير مرغوب، ولا يعود ينفع أي تصريحات حكومية آنذاك. مقولة الوزير الشهيرة «ابن ولا بع» ذهبت مثلاً يُتندّر به.