شباب اليوم ليس كشباب الأمس. شباب اليوم يتحدث ويفكر بطريقة علمية منطقية راقية. لم أذكر أنني أو أحد ممن أعرف كان قد وصل إلى هذا المستوى الفكري المنطقي في شبابه. وفي الجامعة وفي الندوات يتحدث بعض هؤلاء الشباب عن مرئياته وتوقعاته، فإذا حديثه يفوق عمره فكرا ومنطقا، مما جعلني أتساءل، كيف وصل شباب اليوم إلى هذا المستوى من الفكر والمنطق الذي نحاول نحن شباب التسعينيات - الرجال الأربعينيون اليوم - جاهدين للوصول إليه اليوم.
أعتقد أن السبب في تفوق الشباب الفكري اليوم هو انفتاحهم على ثقافات العالم واطلاعهم على تجارب الأمم المعاصرة واستماعهم إلى أنواع منوعة من التحاليل للحوادث المتكررة مما اختصر عليهم الزمان، فاكتسبوا خبرات هائلة ما كان لأحد من الجيل الماضي أن يكتسبها إلا أن يُعمر طويلا فيهرم فيخرف. ففي الأمس البعيد لم تكن الأخبار تنقل إلا الحوادث الكبرى ولا تصل إلا بعد انقضائها، وكذا الحال في الأمس القريب. فعلى الرغم من وجود التلفزيونات والإذاعات في الأمس القريب إلا أنها لم تكن تصل إلا مفلترة، وموجهة الهوى، قد صُدق الحكم فيها ومُنع الاستئناف. فكان الرجل يعيش السنين الطوال ولا تمر به إلا حالات معدودة تمكنه من كسب بعض المعارف. فمن الحرب العالمية الثانية إلى حرب أكتوبر لم يسمع جيل تلك الحقبة إلا عن حوادث معدودة تدور حول حروب العرب مع إسرائيل. حوادث على قلتها وعموميتها تُسرد سردا بطريقة واحدة وبنظرة حكومية جامدة. بينما شباب اليوم عاش أحداث عقد من الزمن مليئة بالأحداث العظام بتفاصيلها المملة، ما بين حادثة الحادي عشر من سبتمبر وبين الثورة المصرية وما تبعها بعد ذلك. أحداث لم يسمعها الشباب من طريق واحدة، ولا من وجهة نظر معينة. أحداث لم تمر من خلال فلتر الرقابة ولم يمسها مقص الرقيب ولم يُجملها أو يشوهها قسم توجيه الإعلام في جهاز الاستخبارات أو الأمن المركزي. هذا الكم الهائل من المعلومات كان على شباب اليوم أن ينقحها ويميز صحيحها من كذبها، وطيبها من خبيثها، فلم يجد إلا المنطق قائدا له ودليلا. هذا المنطق يصدر من عقل غض لم تفسده جمود السنين ولم تعطله تراكمات التوبيخ والتحجير، فأصبح شبابنا اليوم، وهو يملك عقلا مستقلا متدربا متعلما. فلا يُقارن شباب اليوم الذين يتعرضون لهذا الكم الهائل من الخبرات والمعلومات والتحاليل عن طريق لمس شاشة صغيرة، مع شباب الأمس. بالأمس، كان يجتمع الناس عند أحد الوجهاء ليسمعوا أحاديث العالم، فإذا قص القاص عن حروب الألمان مع البريطانيين في شمال أفريقيا قام أحد الحضور فتساءل «لم لا يفصل ابن سعود بين هذه الدول ويقضي بينها فيحفظ دماءها»! كيف يقارن شباب اليوم بنا نحن، شباب التسعينيات، عندما كنا بالأمس نسترق السمع عبر شريط كاسيت إلى محدث يحدثنا بأعاجيب وغرائب فيأسر قلوبنا ويستخف بعقولنا، إذ لم نعهد آباءنا يتكلمون بها سرا ولا علانية.
وبالأمس كانت كتب التاريخ تُغني عن تكرار القصص، فمن قرأ التاريخ أحاط بخبرات العالم، فالقصة واحدة تتكرر في كل زمان ومكان مع تغير في الأسماء. وأما قصة يومنا فلا تكرر قصة الأمس، فلكل صباح قصته الجديدة. جاء حادث الحادي عشر من سبتمبر لتفوق أمريكا على عالم جديد، فلم تقعد بها حوادث التاريخ المنصرم وتنظيراته ومقولات آبائهم وأجدادهم، فغيرت استراتيجياتها بالكلية، بينما لا يزال الشرق الأوسط يعيش بعقلية مستمعو أحاديث قصاصي حرب العلمين.