أسامة عبد الرحمن
يا الله لو أنني كتبت ولو بضع كلمات من التقدير العميق الذي حملته للدكتور أسامة على مدى سنوات، ونثرتها من شباك بيتي بعمارة 3 إلى شرفة بيته بالعمارة المقابلة رقم ستة بسكن جامعة الملك سعود بالرياض, ربما كانت علقت برمل ملاعب الأطفال بضع فراشات ليقرأها د. أسامة في طريقه الصومعي من مكتبه بالبيت إلى مكتبه ومريديه وطلابه بالجامعة.
غير أنه على الرغم من أن كتابات د. عبدالرحمن شكلت غيثاً لسنوات الشظف التي عاشتها الجامعة والمجتمع على امتداد عقدين من الزمان بين مد التشدد وجزر الشجاعة الأدبية والأكاديمية معاً، فإنني كنت واقعة في براثن إعاقاتنا الاجتماعية التي تدخلنا في شتاء طويل من التقحل والتوحش. لقد صبحت أو مسيت على زوجته باسمها ومبسمها الشاعري “السيدة غزالة” بحكم الجيرة في عدة مناسبات خاطفة, وتوقف الأمر عند ذلك لدرجة أنني لا أذكر أنني حملتها سلاماً لقامة زوجها الشامخة والأبية أو فكرت في دعوتهما على فنجان قهوة بحضور محارمي ومحارمهما. قوضنا الخيام وتشظينا من ارتحال إلى ارتحال منذ كنت معيدة صغيرة تزامل مفكراً كبيراً وشاعراً متأملاً يتميز بالاستنارة مهما أدلهم الوقت، من ندوة مؤتمر التنمية على مستوى الخليج إلى لواعج العراق ومصر وفلسطين ولبنان والسودان والرجل يملك سمعاً مرهفاً لا يجعله يخطئ صوت الحق من ضجيج الباطل. كان من جيل علي الكواري وعالمة الاجتماع جهينة العيسى بقطر، وجيل أحمد الربعي وفاطمة حسين ومحمد الرميح وخلدون النقيب بالكويت، وعلي فخرو ومنيرة فخرو بالبحرين, وهشام الشرابي وحليم بركات ببلاد الشام، وفؤاد زكريا وكمال أبو المجد بمصر، ولم يكن كلفه بالمواقف النزيهة أقل وإن كان جهده أصعب بحكم اختلاف سقوف البيئات. وإن كنت أقصد التجايل الفكري إذ لاعلم لي بعلم التجايل العمري ولا أتورط فيه..
رحم الله الدكتور أسامة عبدالرحمن بقامته السامقة وجعله في جنة عليين مع الأبرار المخلصين وأحسن عزاء أسرته وأصدقائه والسائرين في الوطنية والاستنارة على خطاه فقد كتب بإخلاص في وقت كان فيه بريق النفط يخطف الأبصار للمناصب إلا من استمسك بالحرية وزهد في الأضواء. أقلب كتبه الشعرية ممهورة بإهداءاته الرطيبة وأتأمل عناوينها تقطر بماء مستقى من حياض لغة القرآن “استوت على الجودي”, “بحر لجي”, “موج من فوقه موج”.. إلخ. وعلى اختلاف خطنا الشعري شكلاً ومضموناً فإني كنت أجد في شعره موجدة وجدانية لا يملك أي قارئ مرهف إلا أن يتفاعل معها. كما أقلب كتبه الفكرية مثل “المثقفون والبحث عن مسار”, إدارة المعرفة والإدارة القبلية, صور من التحدي والتردي, بالإضافة لكتبه عن النفط والتنمية وأعيد استشعار قيمة كتاباته التي طالما قررت الكثير منها كقراءات مطلوبة لبعض مقرراتي الخاصة بالمجتمع العربي السعودي في ذلك الحين الذي لم يكن فيه إلا القليل مما يمكن الاعتماد عليه من الكتب الحفية بالبعد الاجتماعي للواقع العربي والخليجي خارج المكتبة المصرية واللبنانية وبعض الكتب من الكويت.
محمد بن أحمد الرشيد
تغمد الله الدكتور محمد الرشيد بواسع رحمته، فقد كان مثله مثل د. أسامة من الرعيل المبكر أو الفوج الأول لجيل الدكاترة من الشباب السعوديين آنذاك ومنهم أيضا د. منصور الحازمي ود. إبراهيم العواجي، ود. الرشيد، ود.خطاب, ومحمود صفر, ود. هشام ناظر، وفايز بدر, ود. فاتنة شاكر، د. ثريا التركي ود.ثريا عبيد وسواهم من خريجي الدكتوراه نهاية الستينات أو مطلع السبعينات. ومع أنه لم يكن من الشباب الذين تشكل بهم ما عرف وقتها بحكومة الدكاترة، (في أول خطوة للملكة العربية السعودية لتشكيل حكومة وإن لم تكن بعيدة عن الولاءات القبلية القديمة فإنها كانت تطعيم مبشر لها لو تطورت), فإنه قد دخل الحكومة في لحظة ملحة حيث كانت أبواب الرئاسة كما أبواب وزارة التربية والتعليم معاقل للعتمة ومعازل خلفية لتحويل براعم التلاميذ والتلميذات الصغيرة إلى رهائن لمحبسين محبس الاغتراب الوطني والعصري ومحبس الاحتراب الاجتماعي منتصف التسعينات. فكان وجوده في ذلك الموقع الحساس أملاً بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سفينة المعرفة التي يشكل فقدانها لبوصلة العلم والحرية والعقل ضياعاً للمجتمع بأكمله. وكنت وسوايا قد كتبنا وكاتبناه بتلك الهواجس وكان صدره واسعاً كما كتب د. محمد القنيبط في إحدى تغريداته.
كان يبدو مصغياً لكل الأطياف في قلقها الوطني والمعرفي على حال التعليم في بلادنا قبل وإبان قيادته لوزارة التربية والتعليم. وقد تحزم في تلك القيادة بشهادة مجايلي تلك المرحلة بالعديد من القيم المعرفية والخلقية التي لا تنجح المشاريع التعليمية السوية بدونها مثل شهادة أ. أياد مدني فيه بقوله, “لقد سعى وكافح وكدَّ بعلمه وشفافيته وصدقه ليجعل نظامنا التعليمي أكثر انفتاحاً وتوازناً وتسامحاً وكفاءة”.
وأختم بالدعاء له وبالعزاء لأسرته والأسرة التعليمية ووطنه بأسره وباثنين من تغريداته الشفيفة الجارحة التي كانت من آخر قطرات في مداده:
* “في غرفة العزل كان كل شيء مهيأ، التلفاز خزانة ملابس حمام نظيف ملابس جديدة كل يوم مع رعاية مستمرة ولكن كان ينقصها المهمين العافية والحرية”.
* “كنت سجيناً شعرت بمعاناة السجناء وأدركت سذاجتي إذ ظننت أن السجين قادر على التأقلم مع وضعه, ما أعظم المناضلين الذين قضوا أعماراً خلف القضبان”.
حزام العتيبي
أستغفر الله من غفلتي وجزعي وانشغالي فقد ظللت ليومين أو أكثر غير مصدقة وأنا أقلب صورة الجسد المسجى على الأكتاف بأنه ذهب دون ريشة وداع أو رفة منديل, وأنني لن أراه ثانية يرفرف كطائر رعد ومطر حول ضفاف تلك المرأة النهرية الزميلة ليلى الأحيدب كما رأيتهما آخر مرة قبل أعوام، أخالها قليلة بصحبة أبنائهما يزيد ودانا عند بوابة معرض الكتاب الدولي بالرياض على شارع العليا.
وما حز في نفسي إلا أنه استرعى تأملي ودهشتي كطفل فاغر الحواس أمام معلومة جديدة وخطيرة عن الوجود أنني في خضم انغماسي بذروة الحياة باستقبال طفل جديد في الأسرة لم أعلم إلا بعد أسبوعين بذروة المنتهى وقسوة النبأ بعودة روح الشاعر والكاتب الصحفي حزام العتيبي إلى بارئها.
كان الشاعر والكاتب حزام العتيبي كما يخيل لي من قصائده وكتاباته الصحفية ومشاغباته الطفولية الغاضبة وحرائقه المشتعلة والرائقة معا في الوسط الأدبي وعلى الساحة الثقافية مثالاً للمثقف القلق الذي أخلص لقلقه المعرفي والوجودي ولأسئلة ذلك القلق بما فيها من صراحة جارحة أو شفافية متوحشة. كما كان مثالاً للمثقف المتعالي على الجروح النرجسية التي لطالما يجرحنا بها المجتمع عنوة أو بالخطأ أو يتطاول بها علينا الجاهلون استقواء أو غيرة من عدم قدرتهم على المصادمة أو المجاهرة بالاختلاف. ويبدو لي الآن أنه رغم الصخب أو الظل الصحفي الذي كان يتناوب على مراحل حياته المهنية ومشروعه الأدبي القلق، فقد كان حزام يتمتع بحياء النبلاء وطيشهم فدفع من صحته ومن جيبه العائلي الخاص أثمان الغربة والوطن بمعناهما الشعري والصحفي المتضاد والمتعاضد معا على أرض كانت وما زالت حبلى بمخاتلات ومفاجآت وفواجع التحولات. فكان مثل جيل عريض من أجيال السبعينات والثمانينات محكوم بجدل التجديد ونواقضه وتحدياته.
ويبقى أن الشاعر حزام رحل مبكراً وترك سر حياته الراكضة لمن يجيد الفراسة في النسيج الاجتماعي المشغول بالغموض والأسئلة، ولمن امتلك الشجاعة لصحبة الأرواح المبتلاة بحرقة التحليق والانعتاق فمن غير ليلى. ومن يعرفه أكثر من تلك السيدة الطلحية، الرطبية, التمرية المختالة كنخل الجزيرة العربية التي نسأل الله لها ولأبنائها عظيم الأجر في مصابهم كما نسأله سبحانه وتعالى أن يمنح الشاعر راحة المنتهى ويستضيفه في رحابه التي بلا حدود أو قيود وقد اختار استراحته على سطح الثريا منذ زمن مبكر. أستميح الزميلة الغالية ليلى ويزيد ودانا وكافة الأسرة عزائي المتأخر ولكن يعلم الله أن مصابكم قد أصابني في رجل حاول أن ينصفني في وقت كان رهط كثير يخنقه الخوف من الظلمة عن قول كلمة حق.
وختاماً عزائي الحار للجامعة وللزملاء في اللغة العربية وللزميل دكتور مرزوق بن تنباك في رحيل فقيد اللغة العربية الزميل الأستاذ الدكتور عوض القوزي أغدق الله عليه واسع الرحمة والمغفرة. وعزائي لكافة أفراد أسرته وبناته وأبنائه وزميلتي السيدة رويدة عيد. ألهمهم الرحمن الصبر والأجر وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الأسبوع القادم أعود لاستئناف، ما استوقفت (للحظة وداع زملاء وأعلام أعزاء), من كتابتي عن تجربة تعليمي الجامعي بأمريكا والنشاط الوطني لمنظمة الطلبة العرب.