لئلا أقلد كتابتي
علي أن أكره ما أكره في الكتابة، إن كان هناك ما يكره فيها, إذ عشقها يكذبني لحد استعذاب تجرح الأصابع بحرير المفاتيح وأشواكها, هو إعادة كتابة مقطع أو مقال ضاع مني في زحمة الملفات أو محوته بضربة يد رعناء على مفتاح اللاحفظ.
ولهذا فقد اعتذرت عن مقال الأسبوع الماضي بعد أن عجزت عن استعادته, وحيث لم يكن ثمة وقت لكتابة مقال بديل وقتها, فقد قررت أن أعفي نفسي كعادتي من عذاب الإعادة، وأكتب متى ما سمح الوقت موضوعاً جديداً بعيداً عما سبقه لئلا يصير ما أكتب تقليداً لقول, وإن كان قولي, هو اغتسال بنفس الماء. غير أنني وجدت أنني مضطرة في هذه اللقطات بالذات نظراً لتسلسلها السردي أن أجرب استعادة المشهد الذي تفلت مني بعد تعثر كل محاولات البحث في المحمول عن تلك الجزئية الخاصة باستكمال ما كنت قد بدأته بشأن تجربتي الدراسية بأمريكا.
الملحقية الثقافية السعودية بهيوستن
وصلت هيوستن من حسن حظي رابعة النهار، وكم كانت دهشتي وأنا أجد الشمس في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر تفتح ذراعيها لتستقبلني وكأنها سبقتني إلى “أمريكا” التي خلت أن أجدها مشمعة بالبياض. كانت الفتاة التي حملتني بطموحها الجماح إلى هنا مفعمة بشتى أضداد المشاعر، إلا أنني وأنا أرى في الزجاج العاكس لوعة عيونها الواسعة السوداء بوجهها الأسمر الخنجري المطل من تموجات شعرها الطويل ما لبثت أن هدأت روعها بالبسملة وبقراءة المعوذات وبدعاء دخول بلد جديد الذي كانت قد حفظتنيه مامتي. بعد الاستفسار من شاب أبنوسي فارع كان يقف خلف طاولة الاستعلامات، اخترت من “قوة بأسي” أن أستقل حافلة عامة لتوصلني قريباً من العنوان المنشود. وجدت خلف المقود سيدة شقراء “جبرة” بملامح إفريقية, لم يكن الأمر مستغربا ولكن لا أستطيع أن أدعي أن رؤية سيدة تقود “توبيس” كان شيئاً مألوفاً. كنت قد حرصت بطبيعة الحال على النزول بموتيل غير بعيد عن منطقة الملحقية الثقافية السعودية التي كنت أتمسك بعنوانها أكثر من تمسكي بيدي.
أمضيت أياماً قليلة في هيوستن تحركت فيها جيئة وذهابا أرتدي معطفا شتويا ثقيلا باللون الحليبي وقبعة صوف سماوية من نسيج أمي وشمسية كبيرة سوداء تتسع لاثنين معي, رغم أن الجو لم يكن قارساً ولا ماطراً. كنت أحاول أن أنهي المهمة التي جعلتني أقصد هيوستن أولا وليس مقر بعثتي، فقضيت الكثير من الوقت القصير لهذه المحطة العابرة بالملحقية الثقافية. لم تكن الملحقية الثقافية إمبراطورية من عدة أدوار وبجيش من الموظفين كما هو الوضع الآن بعد انتقالها لوشنطن دي سي، لتخدم ما يقدر بسبعين ألفاً من الطالبات والطلاب على بعثة خادم الحرمين الشريفين وبمتابعة مباشرة من د. خالد العنقري، ولكن الملحقية لم تكن “تصفر” من قلة المبتعثين وانعدام المبتعثات إلا ما ندر، كما آل إليه وضع الملحقيات الثقافية في السنوات الأحادية الفكرية والتقشف المالي من نهاية الثمانينات إلى منتصف التسعينات, ولكنها كانت ملحقية تحمل الكثير من أريحية مرحلة ما بعد منتصف السبعينات, فهناك عدد من العاملين وهناك تنوع في الطلاب من أطراف البلاد وقتها كالدوادمي وصفوة وجيزان والحديثة لعاصمتها ومدنها الرئيسة.
الملحق الثقافي الأستاذ عبدالعزيز منقور
على أنني في تلك المحطة الأولى لرحلتي ما لبثت أن دهشت بأن مكابرتي لشعور الغربة بمعرفتي التحدث باللغة الإنجليزية وبأسفار سابقة على هذه الرحلة, لم تكن إلا قشرة رقيقة أخبئ خلفها مخاوفي الطبيعية من هذه التجربة الجديدة الشاهقة, تجربة الابتعاث للدراسة بأمريكا. إذ لحسن الحظ الذي عادة ما أتمتع به والحمدلله، قابلت من تعامل ببصيرة حياتية مجربة مع ذلك “التجبر” الذي كنت أبديه, ليلامسه بالكثير من النبل والحنان معاً، وليعرفني على مواطن قوتي الحقيقية ومواقع غروري. فوجدت نفسي بالملحقية الثقافية، دون سابق توقع، بل ربما على عكس ما كنت أتوقع، أتعرف على نوع جديد من الأبوة ولكنها ليست أبوة وصائية بقدر ما هي أقرب إلى أبوة صداقة تتمتع بالكثير من الحنو ومن “الديموقراطية “ معاً. وقد اجتمع ذلك في شخص ملحقنا الثقافي آنذاك أ. عبدالعزيز المنقور. كان رجلاً أربعينياً كما بدا لي, فارع الطول يتميز بالأناقة واللباقة مع سعة ثقافة وسعة أفق، وخبرة مدهشة بزهو الشباب والمحافظة عليه. تعرفت في تلك الأثناء أيضاً على من كان يسميه الطلاب رجل المرونة والفزعة د.عبدالرحمن مازي وأسرته. وقد لفت نظري في زيارة الملحقية عدة أمور. الأمر الأول منها، أن عدداً لا بأس به ممن قابلت من الطلبة هناك لم تكن تبدو عليهم مظاهر الطبقة المخملية من المجتمع, بل كانوا يبدون مثلي من عامة الشعب. وكان من الملفت أيضاً الذي كتمت فيه ضحكي في طرف شالي الصوف الفائض عن حاجة الجو، أن بعض الطلاب كان يصر على التسربل ببذلة 3 قطع وكرافتة “تزر” على رقبته بما زاد كما خيل لي ارتباكهم إرباكاً. الأمر الثاني أنه كان من اللافت تخفف الملحقية الثقافية وقتها من وطأة البيروقراطية الثقيلة لدرجة أشعرتني أن أوراق المبتعثين ترف رفاً دون تلكؤ على المكاتب ودون مماطلة للطلاب مع الكثير من الاهتمام والتقدير والتشجيع في التعامل مع الطالب، كما أنهم لم “يعقدو” أياً من البنات ويطلبوا إثبات وجود محرم، فكل حسب ظروفها. أما الأمر الثالث فكان محدودية عدد العاملين السعوديين بالملحقية، هذا بالإضافة إلى ملاحظة خبرتها لاحقاً وهي حفاوتهم بالمتفوقين, فكم كانت مفاجأتي كبيرة وسارة حين وجدت شيكاً إضافياً بمقدار راتب شهر مودع في حسابي ومرفق به خطاب رقيق يثني على المعدل العالي الذي حصلت عليه خلال الفصل الدراسي الأول.
شغف الشعر ودراسة علم الاجتماع
غير أنني ولم أزل بعد في طور تكوين انطباعات أولية عن المكان ولم أنفض عن عيوني بعد الصورة النمطية التي كنت أحملها لولاية تكساس بآبار النفط وجماعات رعاة البقر، وجدتني أشد الرحال بأسرع مما توقعت لمقر دراستي بولاية أوريجن التي كانت تبعد عن هيوستن بولاية تكساس طيراناً بضع ساعات تحتمل أن تكون مملة لولا ما كنت أحمله من تشوق.
وصلت فجر أول يوم في العام الميلادي الجديد 77 إلى تلك المدينة الغافية على غابة من غيوم بين نهر كولمبيا ونهر الولامت، يتنافس مع مطرها الدائم “جبل الهوود” بقممه الناهدة المكللة بالثلوج طوال أيام السنة. ولم أكن أعلم حين وطأت قدمي مدينة “بورتلاند” أن تلك المدينة التي بدت مغايرة تماماً لمدن بلادي، ستشدني بأوردة من أشواق لا تبلى لأكثر من ثلاثين عاماً، وسيصير لي فيها أهل وناس وصداقات أمريكية لأجيال متعددة من أسرتي المضيفة (ذنيومنز) وسرب أخواني واخواتي فيها إلى أساتذتي وزملائي وطلابي فيما بعد, بما أصبح يعيدني إليها أنى ابتعدت, وليس أولها ولا آخرها عودتي لبورتلاند لأقوم بالتدريس فيها بجامعة بورتلاند الحكومية عام 2009م. لم تطل غربتي في بورتلاند التي ربما كان يغلب عليها إحساس بالحنين لأهلي ووطني أكثر منها إحساس بالاغتراب لا بالمعنى الفلسفي ولا بالمعنى الوجداني، إذ ما لبثت أن اكتشفت أن كلية “لويس اند كلارك”، ليست فقط واحدة من أقوى مؤسسات التعليم العالي بالشمال الغربي الأمريكي ولكن وجدت أيضاً أنها تضم عدداً متنوعاً من الأساتذة وعدداً أكثر تنوعاً من الطلاب. بأسرع مما توقعت وجدتني أطوي أوراق حنيني الجارف لماما وبابا وأشقائي وتراب الشرفية بجدة وأضعها في مكان قصي من القلب، بينما انغمست تلك الطالبة الحرون التي كنت أحملها بين جوانحي في التحدي من كعبي إلى أعلى جبهتي بل إلى ما بعد أطراف شعرها الطويل الجامح الذي كان يوقفها بعض المارة ليتساءلوا ما إذا كانت تموجاته ولونه الفاحم طبيعيين. كان من أساتذتي للشعر الشاعر الأمريكي الأراجوني ولييم ستافورد وكذلك الشاعر رتسالا، وكلاهما شاعران مشهوران أمريكياً ودولياً، كما كان من أساتذتي لعلم الاجتماع البروفسور كانون, والبرفسور كريست، وكلاهما علم في تخصصه.
بقدر ولعي بعلم الاجتماع الذي كنت أروم من التخصص فيه فهم سؤال الاستقرار والتغير في المجتمع والبحث في أسباب الفقر والغنى والظلم والعدل والتمييز ضد المرأة والتفاوت الطبقي والتنابذات بين “القبيلي” وغير “القبيلي”، فقد كان ولعي أشد بالشعر، فلم أترك قراءة شعرية ولا مقرراً شعرياً إلا وحضرته تسجيلاً أو حضوراً فقط. كان لعلم الاجتماع وقتها كما للشعر مواقف مشربة بالأسئلة ملغمة بالثورة...
يتبع.