لا أذكر على وجه التحديد الآن، وإن كنت وقتها أعرفه كيوم ميلادي، التاريخ الدقيق الذي تأسست فيه منظمة الطلاب العرب لأول مرة بفروعها المتعددة على مستوى معظم الجامعات الأمريكية، على امتداد ما يزيد على ثلاثة عقود؛ ولذلك فإني آمل أن يمدني بعض من عايشوا تلك التجربة الطلابية المهمة،
.. بوصفها جزءاً كان بارزاً في تجربة الدراسة بأمريكا، سواء في مرحلتي الدراسية من نهاية السبعينيات، أو في مراحل سابقة على تلك المرحلة, أثناءها أو بعدها, بالتاريخ الدقيق الأول, إن كانوا يذكرون, لنشأة منظمة الطلبة العرب بأمريكا. لقد كانت «منظمة الطلاب العرب» واحدة من المنظمات الطلابية المُصرح لها بالعمل والنشاط، بوصفها جزءاً من تلك الكيانات الطلابية التي تحرص الجامعات الأمريكية على عمومها بجعلها جزءاً مستقلاً من تركيبة مؤسساتها الجامعية. وأعتقد أن هذا الحرص هو حرص مشترك بين أغلب الجامعات الغربية، أمريكية وأوروبية أيضاً؛ إذ لاحظت وجود النظام نفسه المشجع والداعم مالياً وقانونياً للطلاب على تأسيس منظمات طلابية خاصة بهم أثناء وجودي طالبة دكتوراه بجامعة مانشستر ببريطانيا بعد تجربتي طالبة جامعية مع منظمة الطلبة العرب بأمريكا بعقدين من الزمان تقريباً.
فبمثل هذه التكوينات الطلابية كانت الجامعات الأمريكية تتيح مساحة حرة للطالبات والطلاب للتدريب على خوض تجربة العمل الطلابي بحرية منظمة، تسمح لهم بتعلُّم تنظيم أنفسهم في النشاط الطلابي الجمعي بروح الفريق، كما تتيح لهم تعلُّم تحديد هدف ورسالة وأساليب ديمقراطية للعمل الطلابي. ويجري تعلُّم تفاصيل تجربة العمل الطلابي على مستويات عدة، مستوى بناء التنظيم نفسه وهيكله الداخلي، ومستوى إدارة علاقاته الرأسية والأفقية مع الجامعة ومع الطلاب ومع المنظمات الطلابية الأخرى بالجامعة نفسها ومنظمات المجتمع الرسمية والأهلية خارج الجامعة، ومستوى تعلُّم وضع اللوائح الداخلية المنظمة للعمل وتصميم البرامج الطلابية الأسبوعية والشهرية بل السنوية، التي يريد الطلاب من خلالها التعبير عن أنفسهم وعن ثقافتهم الطلابية أو المرجعية، والتي تعطيهم الفرصة لبناء ومد الجسور الثقافية والاجتماعية مع مجتمعهم الطلابي بالجامعة التي ينتمون إليها، ومع محيطهم الاجتماعي الذي تقوم فيه الجامعة، من المدينة إلى الولاية إلى عموم المجتمع الأمريكي أحياناً. فشكلت منظمة الطلبة العرب بذلك تجربة غير معهودة لمعظم من مروا بها من طلاب غير سعوديين وسعوديين على حد سواء. كان ذلك على مستوى تعلُّم تشكيل وهيكلة التنظيم الطلابي رئاسة انتخابية ونواباً لها ورؤساء لجان منتخبين وعضويات عاملة وعضويات مؤازرة وصولاً إلى التكوين الأعم للمنظمة كجسد طلابي ممثلاً بالجمعية العمومية للمنظمة الممثلة لجميع الطلاب من أعضائها، سواء النشطين فيها أو المنتمين إليها كعضوية شرفية. كما كان ذلك على مستوى تعلُّم استراتيجية وتكتيك إدارة علاقة هذا التكوين الطلابي بالجامعة، بوصفه منظمة معبرة عن صوت ومصالح الطلاب مقابل التنظيم الرسمي للجامعة، ومع منظمات طلابية أخرى مما توجد معها على أرضية الحرم الجامعي نفسها، أو في جامعات مجاورة أخرى، بخلفية تلك العلاقات التي يجتمع فيها عادة بُعدَيْ التعاون والتنافس. هذا بالإضافة لإدارة علاقتها ذاتياً مع فروع المنظمة عبر جامعات الولايات المتحدة قاطبة وإدارة علاقتها بنفسها باعتبارها منظمة طلابية، تجمع بين الهوية الوحدوية والتعددية معاً. فهي منظمة طلابية، تقوم على وحدة الهدف كعمل طلابي من طبيعته توحيد الجهود والتعاون والتآلف، إلا أنها في الوقت نفسه تقوم على التعددية، سواء في التنوع الطلابي للتخصصات أو للمستويات الدراسية (جامعي - عليا.إلخ), وتنوعهم العمري والنوع الاجتماعي (بنات أولاد). هذا عدا تنوعهم الأهم بالنسبة لمنظمة الطلاب العرب تحديداً، وهو تنوعهم السيسيوسياسي النابع من تعدد هوياتهم الوطنية، بوصفهم طلاباً عرباً من الخليج والسعودية واليمن والعراق ومن بلاد الشام ومصر ومن المغرب العربي بمختلف تقسيمات وتسميات الدول لبلدانهم، وإن كان التميز الأهم في تجربة منظمة الطلاب العرب في الفترة التي عشت فيها تلك التجربة هو قدرتها التي بلغت - في رأيي - حدًّا إعجازيًّا في جعل منظمة العرب تشكيلاً وحدوياً متكاتفاً دون أن يقضي على التعددية الفكرية والموقفية لتوجهات الطلاب المختلفة، بما شكل وقتها تحقيقاً رمزياً للوحدة المشتهاة عبر التاريخ العربي، وخصوصاً بعد تمزقات سيكسبيكو الاستعمارية، في الوقت نفسه الذي شكلت فيه منظمة الطلبة العرب تحدياً لتعثرات تلك الوحدة، سواء عبر التجربة الناصرية أو عبر التجارب القومية الأخرى للبعث بمختلف تشظياته.
وقد كان المعادل الموضوعي الوحيد لتجربة منظمة الطلبة العرب وقتها - كما خبرتها من خلال تجربتي الشخصية في العمل بها - هو تقاطعها مع تجربة تجمع الخريجين العرب التي شكلت تجربة رائدة في خلق تجمع وحدوي للخريجين من الأمريكيين العرب، التي اشتهرت وقتها، وتحدث عنها باستفاضة توثيقية د. هشام شرابي في كتاباته لتلك الفترة، ولاحقاً.
ليس ختاماً:
وقبل أن أختم هذا المقال أحب أن أشير تمهيداً للمقال القادم بأن تجربة العمل الوطني بمنظمة الطلاب العرب، كما تقدم شرحه المقتضب في تعلم المبادئ الديمقراطية الأولية في التشكيل الهيكلي، وفي بناء العلاقات، وفي إدارة الأهداف والرسالة, لن نحس قيمتها الحقيقية إلا إذا علمنا أنها كانت تجربة تعليمية للعديد منا، ممن كانوا يسمون طلاباً «بكراتينهم»، أي دون أي تجربة سابقة غير تجربة المدارس في الطاعة العمياء و»ارفع العصا يطمن الراس». وهذه الفرادة ليست الميزة الوحيدة لتجربة العمل الطلابي الوطني عبر منظمة الطلبة العرب؛ فقد كانت مدرسة نادرة في تعلم الانضباط العلمي، وفي الحب الإيجابي للوطن، وفي العمل التطوعي، وفي التعامل الإنساني السوي والمتسامي بين الطلاب والطالبات العرب، وفي تعلم الحرية بمعناها الانعتاقي من الإعاقات الاجتماعية، وبأسمى المعاني الأخلاقية للحرية.