لو سألت أحد الشباب في العشرينات، أو حتى الثلاثينات، عن جبره، ومعكال، والقري، والوسيطا، والعود، والمرقب، وغبيره... إلى آخره من مسميات الحارات القديمة التي تأسست الرياض زمن الستينيات الميلادية عليها، ثم أصابها الإهمال، واحتلتها العمالة الوافدة، حتى قرأنا مؤخراً بأن الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، تعمل على تطوير وسط المدينة، وإعادة الاعتبار له، كمركز تاريخي وثقافي وإداري واقتصادي على المستوى الوطني، وهذا أمر رائع ومميز، حتى وإن جاء متأخراً، لكن المهم أن يأتي متكاملا، فلا يمكن أن تتم إعادة تطويره، وجعله مزارا لكثير من المناسبات الوطنية والفعاليات الثقافية، دون أن نركز على أمرين مهمين، أن يتم الوصول إليها بشكل ميسر عبر النقل العام، وأن تتم مراعاة المشاة بتوفير ممرات المشي والتنقل بأمان ويسر، وإلا فلا جدوى من هذا المشروع!
ولأنني في الرياض، عروس الصحراء، فمن حقي أن أحلم كما أريد، وأن أتخيل أن زائر هذه المناطق القديمة التي عاشت فيها معظم عائلات الرياض، أن يجد بعض المنازل قد تمت المحافظة عليها، وأعيد ترميمها بالشكل الذي كانت عليه قبل خمسين أو ستين عاماً، وأقصد بذلك منازل المشاهير في الفكر والأدب والثقافة والفنون والرياضة، فكم نفتح أفواهنا دهشين حين نكتشف المتاحف في إحدى المدن الأوربية بالمئات، وهي لا تخرج عن كونها منازل عاش فيها، أو مر بها، مشاهير وأدباء وكتّاب، وفيها أدواتهم وممتلكاتهم الخاصة، التي اكتسبت أهميتها وقيمتها، لأن ملكهم، ولتقادم الزمن عليها.
ماذا لو بحثت هيئة تطوير الرياض عن بيوت الرواد في الآداب والفنون، على سبيل المثال لا الحصر، مساكن حمد الجاسر، وعبدالكريم الجهيمان، وابن خميس، ومحمد السليم، وسعد خضر، ومحمد العلي، ومحمد المفرح وبكر الشدي وغيرهم.. ماذا لو بحثت هيئة تطوير الرياض عن المقرات الأولى للأندية الرياضية قديماً، كنادي النصر ونادي الهلال، أو حتى تصميمها بشكل تخيلي من خلال ذاكرة من عاصرها، وإعادة إعمارها على هيئتها القديمة، هكذا تتم إعادة إعمار ذاكرة الرياض القديمة، حتى تكون زيارة ضيوف الرياض، بل حتى سكانها من الجيل الشاب، إلى وسطها القديم له دلالة ومعنى، وذاكرة تاريخية وثقافية تستحق التوقف!
في المدن العريقة يحافظون على ملامحها القديمة، ويتفاخرون بتدوين التاريخ القديم على منازلها، وكلما كان المنزل ضاربا في عمق التاريخ، كان الفخر به أكبر، فكم كانت اللحظة باهرة، حينما زرت آخر منزل عاش فيه الروائي تشارلز ديكنز في لندن، وقد تحول إلى متحف ومزار للأجانب والإنجليز أيضاً، كان منزلا متواضعا، لكنه كان مرتبا في شكل متحف أنيق، يحتوي على معظم ما توفر من أدوات ديكنز وممتلكاته الشخصية، وشروحات وافية أمام كل غرفة، ومحل صغير يبيع صورا ونسخا من موجودات هذا المتحف. وكذلك الأمر في فرنسا وألمانيا والنمسا وأمريكا وغيرها، يحتفون بتاريخ الأدباء والتشكيليين والموسيقيين، إلى درجة أن صور الفنان التشكيلي (جوستاف كليمت) ولوحاته في شوارع فيينا تجعل الزائر يظن أنه الرئيس أو أحد أبرز الساسة في تاريخ النمسا الحديث!
فهل يمكن أن نعثر بين ركام الطين، وسط الرياض القديمة، بقايا أرواح هؤلاء العصاميين الذين صنعوا ذاكرة البلاد، بمنجزاتهم اللافتة في كافة مجالات الثقافة وفروعها؟ هذا ما نحلم به، وليس لنا سوى الحلم!