حقاً إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك أيها الرمز التربوي الفذ لمحزونون، رحم الله أبا أحمد وأسكنه فسيح جناته ورزق أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.. لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار”. لقد عاش هذا الرجل لرسالة تربوية سامية، آمن بها، ودافع عنها، وحمل هم تبليغها منذ كان أستاذاً في الجامعة وحتى فِراقه الدنيا، كان نعم القائد والصديق،كريماً عطوفاً رحيماً، مدافعاً عن اللغة العربية، محباً للخير، دمث الخلق حسن الطوية والسجية، عالي الهمة، مشجعاً على البذل والعطاء، حريصاً على التواصل والوفاء، من أبر الناس بأمه، يخشى الله ويتقيه، ويخاف من عقابه. أذكر أننا كنا في اجتماع كليات المعلمين السنوي والذي يعقد في جده أواخر العشر الوسطى من رمضان وغالباً في اليوم الثامن عشر من أيام هذا الشهر الفضيل، جاء رحمه الله عز وجل صبيحة ذلك اليوم على غير عادته متضايقاً حزيناً قلقاً، وما أن بدأ الاجتماع حتى ذكر أنه بالأمس وهو يهمُّ بدخول المسجد الحرام إذ بأحد الشباب “الملتزم!!” يمسك به - رحمه الله - ويسمعه كلاماً قاسياً موجعاً له ولولده الذي كان بصحبته، ويلقي عليه اتهامات باطلة جراء توجه الوزارة آنذاك للتغيير في المناهج، ويختمها بالتعجب من أخذه عمرة في رمضان، وقدومه إلى المسجد الحرام وهو من هو في التغريب والإضلال!!؟، ويخفض رحمه الله رأسه وهو يمسح دمعه ويقول: “يا ربع أنتم أقرب الناس لي، أسألكم بالله هل نحن على حق وصواب، أم أننا خائنون للأمانة مضيعون لها ونسير في فلك الباطل، يا إخواني سنقف أمام الله وسيسألنا عن أقوالنا وأعمالنا وماذا قدمنا من أجل صلاح أبناء المسلمين، قولوا لي بكل صراحة وبلا مجاملة هل ما نفعله هو الأصلح أم أننا على خطأ، ولن أسامحكم أمام الله إن أنتم جاملتم أو كتمتم عني ما فيه سلامة ديننا وصلاح حالنا، أيها الزملاء الأعزاء هل أنا مثل ما قال هذا الشاب أم أنه تجنىّ عليَّ...”.
في موقف آخر يقول رحمه الله: كنت كعادتي أمشي بعد صلاة المغرب قريباً من منزلي وإذ بأحد الزملاء يمر بجواري ويسلم عليَّ ثم يُتبع ما دار من حديث بيننا بإخباره لي أنه سيذهب إلى... معزياً لهم لوفاة ولدهم بالأمس، ومع أنني لا أعرف والد هذا المتوفى إلا أنني حرصت على الذهاب معه للعزاء، وما أن وصلنا هناك وعزينا الجميع حتى أجلسني من استقبلنا عند والد المتوفى فأحببت أن أسليه وأسري عنه، وبعد حديث طويل، سألته ببراءة تامة عن سبب وفاة ولده، فقال أنه عُيِّن معلماً في إحدى قرى المجمعة وفي طريقه إلى مدرسته صباح أمس قدر الله عليه أن توفي إثر حادث أليم، يقول معالي الوزير حينها: فقلت متلطفاً، لعلنا ألاّ نكون سبباً في وفاته؟، يقول - رحمه الله - فرد عليَّ الأب المكلوم بكلمات هزتني وأشعرتني بعظم المسئولية، إذ قال: “شف يا أبو أحمد إذا كان المكان الذي وضع فيه وعين هو حقه بحسب النظام فأنتم بريئون من دمه، وإن كان غير ذلك ولو بمتر واحد فسوف أسألكم عنه يوم نقف أمام الجبار في يوم العدل الأكبر”. لم تكن هذه الكلمات تمر على الرشيد -رحمه الله- مروراً عابراً بل استوقفته كثيراً وأثرت عليه حتى النخاع، وحين اجتمع بقادة العمل التربوي ذكر هذه الحادثة، مؤكداً على الجميع وجوب تحقيق العدل خوفاً من الله وحماية لحقوق الناس وحرصاً على أداء الأمانة كما يرضي الرب سبحانه وتعالى.
إن القريبين من أبي أحمد -رحمه الله- يذكرون من المواقف والأحداث التي تبرهن على حرص الرجل وخوفه من هذا اليوم الذي هو فيه بين يدي رحمة الله، كما يؤكدون دوره المشهود في بناء لبنات مشهدنا التربوي والتعليمي بكل أمانة ومصداقية وإخلاص.
رحم الله أبا أحمد وجعل ما قدم في موازين أعمله، وجزاه خير الجزاء، ورزق أبناءه وأهله الصبر والسلوان، وأعاننا على ما أعانه عليه، إنه سميع مجيب الدعاء.. وإلى لقاء والسلام.