عندما تهطل الأمطار وتكون غزيرة تحدث تهتكات للمنشآت والطرق، ففي الماء تكمن قوة هائلة على النفاذ في الشقوق الصغيرة جداً والتي يحدثها التمدد والانكماش بفعل فروقات الحرارة المؤثرة في أجسام المباني والطرق، وعندما يُضاف لذلك النفاذ قوة الضغط الكمي للسيل، تصبح الشقوق الصغيرة كبيرة ويحدث الأنهيار والتهتك، هذه حقيقة علمية وهندسية وتحدث في كل بلاد العالم، فالمباني تنهار والطرق تتكسر والجسور تتصدع عندما يكون السيل جارفاً، والمنشآت تُصمم في الغالب للتعامل مع الظروف المحتملة وليس الظروف الاستثنائية، فلكل تصميم تكلفة ولكل تصيم قدرة عملية.. أسوق هذا الكلام وأنا لست مهندساً، ولكن ما دعاني له هو انسياق معظم الناس وراء مقولة إن كل خلل يحدثه السيل هو دليل على فساد في التصميم وفساد في التنفيذ للمنشآت العامة، مع أن كثيراً من هؤلاء يشاهد في منزله آثار الخلل الذي تحدثه السيول، ومع ذلك لا يتهم نفسه أو المقاول الذي نفذ له بالفساد.
الكلام عن الفساد أصبح في بلادنا قرين الحديث عن الطقس، فكلما هطل المطر في أي من المدن السعودية، تسلح البعض بكاميراتهم أو كاميرات جوالاتهم بحثاً عن خلل ما في طريق أو مبنى أو جسر، وما هي ألا لحظات حتى ينطلق السيل من التهم بفساد المقاول وفساد المهندس وفساد المسؤولين، والأدلة صور ومقاطع فيديو وساحة المحاكمة في (تويتر) و (الواتس أب)، هذا الأمر أصبح ظاهرة اجتماعية غير مسبوقة، وهي ظاهرة خطيرة لها استتباعات غير محسوبة، وخصوصاً بعد دخول شخصيات ذات وزن اجتماعي في منظومة الاتهام العلني دون فهم لواقع العملية الإنشائية من منظار هندسي علمي وتنفيذي عملي، فليس هناك في أي عمل إنشائي مهما بلغت دقة التنفيذ وحسن المواد جودة مطلقة، فالجودة نسبية وتخضع لعدة معايير، ولهذا السبب يُعيّن مهندس مشرف مستقل عن المقاول يُعتبر ممثلاً للجهة صاحبة العمل ولا تتم خطوة في الإنشاء أو تُستخدم مادة دون موافقة من ذلك المشرف، وبناء على معايير هندسية، لذا فإن معظم الخلل الذي يحدث في بلادنا لكثير من المنشآت عند تعرضها للسيول هو ناتج طبيعة مناخية، فتذبذب تعرض المباني لدرجات متفاوتة من الحرارة أسرع وتيرة، والفارق بين درجات الحرارة واسع في نطاقات زمنية قصيرة، يُضاف إلى ذلك طبيعة انهمار الأمطار التي تسقط بكميات كبيرة وفي نطاق زمني محدود.
مقالي اليوم ليس الهدف منه نفي الفساد عن نشاط المقاولات، فالفساد به وارد، كما هو وارد في كل نشاط تغيب فيه الأمانة وترخص فيه الذمم، و لكن الهدف من مقالي اليوم هو جلب الانتباه لظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الشك والاتهام بالفساد دون دليل واعتبار أي خلل هو نتيجة لفساد، هذه الظاهرة خطيرة لأنها ستجعل المسؤول الذي يبذل جهده ويحكم ضميرة ويخلص لوطنه متهماً بالفساد لمجرد أن إدارته نفذت مشروعاً حدث له تهتكات ولو كانت طفيفة، وستجعل المقاول الذي أخلص في تنفيذ مشروع ما متهماً بالفساد وكذلك المهندس المشرف، هذه الاتهامات غير المبررة وغير الشرعية لا تفعل شيئاً سوى الإحباط للمسؤول والمرارة للمهندس والألم للمقاول، وهي في ذات الوقت ستعزز الشعور برخص الذمم وتشجع بطريقة غير مباشرة على الفساد، فلسان حال المتهم المخلص هو: «إذا كان ليس هناك مفر من الاتهام بالفساد فليكن حقيقياً»، والاتهام غير الشرعي بالفساد سيجعل المسؤول يتردد في اعتماد المشاريع الكبيرة وربما يدفعه ذلك لوضع معاييير أكثر تحفظاً، فترتفع تكاليف المشاريع ويصبح الهدف هو التحفظ وليس الإنجاز.
المجتمع السعودي هو مجتمع محافظ بطبيعتة يعظّم قيم الأمانة ويحمّل الذمة مسؤولية كبيرة.. ومسؤولو الدولة هم من المجتمع وكذلك المقاولون ومعظم المهندسين الذين يشرفون على مشاريع الدولة، هم محل ثقة وتقدير بصورة عامة، ولكن لا يخلو صندوق التفاح من تفاحة فاسدة، ودور الجهات الرسمية المتخصصة مثل «هيئة مكافحة الفساد» هو العمل على إيجاد تلك التفاحة الفاسدة والتخلص منها دون الشك والاتهام في البقية الصالحة.