لا تزال نرجسية التخلف تلقي بظلالها على بعض عقول البشر في عالم المسلمين والعرب، ويظهر ذلك في مشاهد حمل السلاح والاقتتال المستمر وتفجير المجتمعات من أجل فرض تطبيق صورة الإسلام المثالي كما تعلموها في المدارس الدينية، وتلك إشكالية ومأزق حضاري يتحمله التعليم الديني، والذي قدم التاريخ الإسلامي في قالب أيديولوجي بحت، لا يخضع للمعرفة والنقد الموضوعي، ولكن يتم تلقينه كعقيدة دينية خالصة، وقد نتج عن ذلك تضخم أحداث تاريخية إلى درجة غير مسبوقة، وإلى ظهور أجيال لا تقبل الحوار الموضوعي أو النقد المعرفي لتلك المسلمات، كانت نتيجة ذلك انفجار حركات الجهاد الإسلامي وتحول العالم العربي والإسلامي إلى حروب أهلية هدفها فرض الأمر الواقع من خلال قوة السلاح.
في البدء كانت شرارة الانطلاق لعصر عربي جديد حين اتفقت التيارات العروبية والسلفية في القرن الثامن والتاسع عشر على مقاومة الاستعمار التركي الثقافي والسياسي للمناطق العربية، وكان الهدف هو التحرر من السلطة العثمانية، وكانت مصادر البعث العروبي القومي عواصم الحضارة العربية في الشمال العربي، بينما جاء البعث السلفي الديني من قلب الجزيرة العربية، وقد أدت تلك العوامل على افتراقها على مقاومة سيطرة الدولة العثمانية على المنطقة، لكنها أدت في المقابل إلى دخول المستعمر إلى معظم أجزاء العالم العربي.
أدى دخول المستعمر الغربي إلى المنطقة إلى نشوء ظاهرة ثقافية جديدة جوهرها الانبهار بما وصل إليه الغرب من تقدم مذهل في القرون التي تلت سقوط الحضارة العربية في الأندلس، وقد قاد ذلك إلى خروج جيل من المثقفين يدعون إلى اللحاق بالركب الغربي قبل فوات الأوان، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلا باتخاذ الخطوات العملية والثقافية من أجل الوصول إلى الهدف، فكانت الدعوات إلى الليبرالية والرأسمالية والديموقراطية والتعددية والانفتاح، ويحاكي ذلك الاتجاه ما أحدثه العرب المسلمون في مجدهم على الغرب عندما ظهرت نزعة ثقافية غربية في القرون الوسطى تطالب بتقليد المسلمين والعرب، وذلك بعد ترجمة كتب علماء وفلاسفة المسلمين.
كان ذلك الخطاب فيه إثارة للنرجسية العروبية والإسلاموية المعاصرة، والتي تدافع عن التخلف وترفض الاعتراف به كواقع،
وترفض رفضاً قاطعاً أن تؤمن بتفوق الحضارة الغربية الثقافية في أدواتها وسلوكها وأساليبها، فكان الرفض من خلال اتجاه الطرح القومي اليساري والارتماء في أحضان الشرق الشيوعي ، وفي جانب آخر اشتد الطرح السلفي والإخواني في أطروحاته ضد الثقافة الغربية المتفوقة، وقد شكلا التياران جسراً منيعاً ضد المنتجات الغربية في الحداثة والديموقراطية والاقتصاد، برغم من اختلافهم الجذري في المبادئ، وإن اتفقا على تضخيم المواقف الإيدولوجية المعادية للثقافة الغربية المتحضرة والمتفوقة.
خلال فترات ذلك التناحر الأيديولوجي المستعر، جاءت موجات النقد الموضوعي للموروث الثقافي الإسلامي على يد الجابري والعروي وحنفي بمثابة دعوة للخروج من أزمة الاستقطاب بين دعاة المثالية الإسلامية والتضخم الأيديولوجي والتي قادها سيد ومحمد قطب والغزالي، و بين دعاة الليبرالية الخالصة من أمثال طه حسين وسلامة موسى في ناحية، وبين مؤسسي المد القومي اليساري الشمولي مثل ميشال عفلق ومحمد عزة في ناحية أخرى، وقد ألقت بظلالها ولا زالت كثيراًَ من المتغيرات الثقافية ترجع إليها الفضل في التقليل من نزعة النرجسية العروبية والإسلامية.
كانت هزيمة 1967، و سقوط جدار برلين في 1989 بمثابة المقدمات لبدايات سقوط المد القومي اليساري، بينما كانت تلك الحادثة فيها إعلان ببدء صعود المد الديني المتطرف كحالة دفاعية بديلة عن القومية المنهارة مع انهيار جدار برلين، وقد أدت حادثة 11 سبتمبر الشهيرة إلى إعلان المواجهة المباشرة بين التضخم الأيديولوجي الديني وبين الثقافة الغربية، والتي كان من آثارها بدء مسلسل قبول الإسلاميين بمبدأ التفوق الغربي، واعترافهم بوجوب قبول مبدأ التغيير، وذلك عبر قبول مشروط بأفكار الديموقراطية والتعددية والمجتمع المدني كحالة بديلة عن المجتمع الديني المثالي الذي سيتم استنساخه عبر القرون من صدر الإسلام.
ما يحدث من تراجع أيديولوجي تعبر عنه تلك المسافة الزمنية بين المقولة التاريخية للشيخ والمثقف اللامع محمد عبده (وجدتُ في أوروبا مسلمين بلا إسلام ووجدتُ في بلدي إسلاما بلا مسلمين!)، والمتوفى عام 1905، وبين ما توصل إليه بعد أكثر من مائة عام شيخ سلفي عُرف عنه التطرف المتشدد خلال أكثر من عقدين من الزمان، وذلك حين أطلق العنان لعقله وحسه المعرفي وأقر أن أوروبا متحضرة، ونحن شعوب متخلفة في سلوكها وحياتها العملية، وأن بعض المشايخ وطلبة العلم وهو أحدهم كانوا جفاة في الخُلُق، وتصحّر في النفوس، حتى إن بعض العلماء إذا سألته اكفهرَّ وعبس.
ما عبر عنه الشيخ السلفي يحكي قصة النرجسية الإسلاموية المتضخمة، والتي لازالت تمارس في بعض أوجهها أساليب الإقصاء والعنف والاقتتال من أجل فرض كلمتها وأسلوبها الجاف والمتخلف عن المجتمعات المتحضرة في الألفية الثالثة، وربما لن يكفي ذلك الاعتراف المتأخر، وقد نحتاج إلى إدخال مناهج جديدة في التعليم عن الموضوعية والنقد المعرفي واحترام الاختلاف في المجتمعات العربية والإسلامية، وقبل ذلك أن نبدأ من حيث انتهى العلم المتقدم قبل أن نصبح أثراً بعد عين.