فجرت أحداث التحرش الجنسي في الأسواق وابتزاز النساء في أماكن العمل ضرورة تقنين العلاقة بين أفراد المجتمع بمختلف أطيافه، وذلك من أجل وقف حالات التعدي والإيذاء بين الناس، وقد استبشر الناس بقانون الإيذاء، لكنه لا يزال يحتاج إلى إضافات وإيضاحات وعقوبات محددة يشرف عليها مختصون، من أجل التوسع في دوائر تقنين تلك العلاقة المنسية بين المرأة والرجل، وبين البالغ والطفل، وبين المدير وموظفيه، وبين المعلم وتلاميذه.
يحتاج الأمر إلى جهود توعوية من أجل الانتصار لثقافة حقوق الإنسان على مختلف الاتجاهات، ومنها أن يتم إدخال مادة دراسية عن حقوق الإنسان وعن حقوق الطفل والمرأة والبالغ والمسن في المجتمع، ونكتب عن ذلك لأن التأخير في تحديد مثل هذه العلاقات القانونية سيزيد من نبرة العنف في المجتمع، ويجعل من الفوَضى وأخلاقيات الغاب سلوكاً سائداً بين فئات المجتمع، ولا سبيل إلا ببدء خطوة الألف ميل في الوصول إلى مجتمع يحكمه احترام القانون.
نحتاج إلى أن نصل إلى قناعة مفادها أن اجتهادات الفقهاء في القرون الوسطى لم تصل إلى المفاهيم المتحضرة في العصر الحديث، فالإيذاء في مفاهيمه المعاصرة لم يكن حاضراً في تلك العصور، ولكن في ديننا الحنيف مبادئ ومقاصد تفتح المجال لسن قوانين جديدة تواكب المعاصرة وتحدد العلاقات القانونية بين الناس، والتي لم تعد تحكمها الأعراف القبلية وقوانين العيب، ولكن يحكمها وعي جديد، مفرداته الفردية والخصوصية والرغبة أحياناً في كسر القيود، وإذا لم تواجه السلطة تلك الانحرافات بالقوانين سنتحول إلى مجتمع تحكمه الفوضى والعنف.
نحتاج إلى تحديد مسارات قضائية واضحة للقضايا التي تمس حقوق الإنسان، على أن تخرج وسيلة استيفائها من سلطة الإداري، وذلك كتطبيق علمي لاستقلال القضاء من سلطة المسؤول، وبذلك سنخطو أول خطوات الحضارة في القرن الجديد، ولن يستطيع قضاء شفوي أن يحكم الواقع، وكان من نتائج الشفوية التناقض في الأحكام والانحياز والمحسوبية، وقد يفقد الناس ثقتهم في الأحكام، وهو ما سيؤثر على احترام سلطة القضاء، وسيجعل من العدالة المنشودة مهدياً منتظراً في نظر الضعفاء والمظلومين.
يؤدي الإعلام في السنوات الأخيرة أدواراً توعوية رائدة، وكان له دور رئيسي في إبراز عديد من القضايا التي تستدعي تدخل السلطة من أجل استيفاء حقوق المتضررين، لكن ذلك لن يكفي، فالكثير من الخاسرين في قضايا الحقوق لا يرغبون في أن يقوم الإعلام بدور المحامي عنهم، وذلك خوفاً من التشهير، لكنهم يريدون أن تكون هناك قوانين تحميهم إذا تعدى أحدهم على حق من حقوقهم، وهو ما يعني أن يكون هناك نظام قائم بذاته، ويستجيب بكفاءة عالية لدعوى المظلوم، ولا يحتاج إلى وسيط من الحصول على حقوقه، وتلك من سمات المجتمعات المتحضرة التي تبحث عن الاستقرار والأمن للأبد.
كذلك ينبغي عدم حصر قضايا الإيذاء فقط في النساء والأطفال، فالتسلط وإيذاء الآخرين سلوك عدواني منتشر في أماكن العمل ويعاني بعض العمالة والموظفين من الاضطهاد والتسلط، لذلك عندما نصدر قوانين ضد الإيذاء والتحرش والعنف والتسلط يجب أن تكون خاضعة لمبادئ حقوق الإنسان، والتي تمنع الاضطهاد والعنف بمختلف أنواعه وفي جميع مجالات الحياة، وعندما نؤمن بذلك سنصل إلى حالة من التوازن التي تشفع أن يكون الأمن والأمان رمزاً خالداً لهذا الوطن الغالي.
خلاصة الأمر أن استيفاء الحقوق بالشريعة والقوانين فضيلة، من أهم منافعها درء استيفاء الحقوق بالذات، وهو أن يبحث المظلوم عن حقه بيمناه، وفي حالة غياب فضيلة استيفاء الحقوق من خلال النظام، سيكون الباب مفتوحاً لأي اعتبارات أخرى، وقد تكون سبباً لتفشي سلوك الإيذاء والعنف والعنف المضاد في المجتمع.