تستطيع النفس البشرية الإيمان بالغيب مطلقا، بل وتحتاج إليه في الأمور الخارجة عن إدراكها وتصورها، كالإيمان بالبعث والقدر وغيرها من الأمور المتعلقة بحقيقة الخلق وابتدائه ومنتهاه. فالغيب حاجز مانع لمنطق الإنسان وفكره. ولذا كان الإيمان بالغيب أولى أولويات العقيدة قبل العبادات ومن ثم جاء الإيمان بوجوب القيام بالعبادات قبل الإيمان بقبول أحكام المعاملات - لأن العبادات يغلب عليها الجانب الغيبي- وشاهد ذلك في قوله تعالى في أول البقرة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، (والزكاة فيها جانب تعبدي وجانب معاملاتي).
والذي أوجد الحاجة بما يسمى بالمصرفية الإسلامية هو الضيق والحرج الذي وقع على المسلمين بالقول -بخطأ القياس -بربوية النقد الحديث، وما تبع ذلك من الاعتماد على الحكومات وتعطيل الاقتصاد بتعطيل شريانه الحيوي وهو التمويلات. ومثل ذلك - ولكن بمصيبة أقل بكثير في دين المسلمين ودنياهم- ما حدث بالقول بإيقاع البينونة في الطلاق الثلاث في مجلس واحد وما وقع على المسلمين من حرج وضيق وظهور فقه الحيل بسببه. وكذلك حقت كلمة الله بحفظ معالم شريعته، فلا يتألى على الله أحد بتحريم ما لم يحرمه، إلا ويظهر خطأه وضعفه في تحليله مرة أخرى بالحيل وتغيير المسميات.
مهما اختلفت مسميات «منتجات» ما يسمى بالصيرفة الإسلامية ومهما تنوعت ومهما وُضع فيها من ألفاظ غريبة وعجيبة لحجب حقيقتها فهي لا تتجاوز نوعين اثنين. إما ترجمة محضة للعقود التمويلية التقليدية بألفاظ شرعية، (ومن أمثلتها ما يسمى بالصكوك كلها، بجميع أنواعها وإصدارتها). وإما ترجمة محضة لعقود تمويلية تقليدية مع إضافة لفة ودورة تضيف الضبابية للعقود أو ترفع الكلفة وتسبب إرباكا مكلفا لأسواق السلع، ولكنها لا تختلف مطلقا عن بيع العينة أو عن البيع الثلاثي بتعريفها عند الحنابلة (وهي أن يكون هناك وكيل أي طرف ثالث متفق معه يبيع ثم يشتري). وبجانب أنها بيع عينة صوري من الناحية الشرعية، إلا أنه بجانب ذلك يسبب ضررا للأسواق بالمضاربة الصورية فيها بشراء السلعة ثم بيعها مباشرة.
الرجل العامي البسيط الذي يأخذ تمويلا من البنك، والخبير المالي والمتعامل بالأسواق المالية، كلهم لا يُخفى عليهم أن الصيرفة الإسلامية مجرد صورة وحيل سطحية ساذجة وتغيير للمسميات ترفع الكلفة والمخاطرة عموما على المستهلك والجانب الضعيف في صالح القوي. فما يراه ويمارسه يختلف تماما عن التنظير الذي يسمعه من أهل الصيرفة. وكل ما يقال من تنظير أفلاطوني عن الاقتصاد الإسلامي فضلا عن الصيرفة الإسلامية، ليس له أي حظ من الصحة أو الواقعية في اقتصاد اليوم. وتكفي الزكاة مثلا، وما قيل في إصلاحها للاقتصاديات اليوم. والواقع أنها لا تصلح إلا في مجتمع إقطاعي، وقد بينت ذلك في مقالات سابقة.
وكما قدمت لمقالي هذا، فإن الإنسان يصعب عليه قبول أشياء غير منطقية وهي ليست غيبا عليه كالعقائد والربوبية والنبوات. وأرباب الصيرفة يريدون إقناع الناس بحيلهم وصوريتها، بحجة مكانة المشيخة وباستخدام الشرع الغيبي في معاملات مُدركة حسا، وهذا من الصعب قبوله عند النفس البشرية. وهذا يجعل النشء الحديث يتساءل عن منطقية الشرع وصحة النصوص الشرعية. ويتساءل عن حقيقة الإسلام، إذا ما تم تحليل الحرام بتوقيع شيخ وسكوت المشايخ الآخرين عنه، ثم تكون هذه التساؤلات وقودا في إشعال نار الشبهات الأخرى وداعما لها. والشباب اليوم يتعرض لكثير من هذه الشبهات.
ما كان أبدا الرجوع إلى شرع الله يشكل خطرا على المسلمين، كما يتعذر به بعض الصالحين من أهل العلم في خوفهم من التصريح -بعد أن تبين لهم -عدم ربوية النقد الحديث بلا خلاف مطلقا. وما كان خطرا على مصالح المنتفعين من بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي، والذين قالوا - بعد أن تبين لهم الحق- لا تقوم لنا بعد ذلك عند الناس قائمة. وليس هناك عذر يعتذر به الصادقون من العلماء أمام الله، في اعتمادهم تحريم ما أحل الله والسكوت عن تحليله بهذه الحيل وما يتبعها من استخفاف بالشرع ودعم للشبهات الإلحادية. وأعيد قول شيخ الإسلام في آخر باب الربا، - وشبيه به قول للشيخ السعدي في نفس الباب أيضا- فلعل فيه ذكرى «وقد يفهمون من كلامه (أي الشارع) معنى عاماً يحرمون به، فيفضي ذلك إلى تحريم أشياء لم يحرمها الله ورسوله. وهذا قد دخل فيه على الأمة، يحرمون شيئاً من الأعيان والعقود والأعمال لم يحرمها الشارع. وقد ظن كثير من الناس أنه حرمها، ثم إما أن يستحلوها بنوع من الحيل، أو يقولون بألسنتهم هي حرام، وعملهم وعمل الناس بخلافه، أو يلزمون ويُلزمون أحياناً ما فيه ضرر عظيم». فالله الله، إن كان هناك حقا غيرة على الشرع والدين، لا يتبعن السكوت عن تحريم ما أحل الله سكوتا آخر عن نشر الحيل والاستخفاف بالشرع بعقود صورية. فالسكوت عن هذا الفقه قد أصبح دليلا وشاهدا للشبهات، مع ما فيه من مساوئ دينية ودنيوية كثيرة. أعقمت أمة محمد اليوم عالما فقهيا سلفيا صادقا شجاعا يتصدى لهذه الفوضى التحريمية والتحليلية، أو يتصدى لي ولكتاباتي في هذا الباب إن كانت لديه حجة علمية شرعية، فيظهر لي وللناس بأنني على خطأ.