كتكملة لحلقة الاثنين الماضي أود أن أشرك القارئ المهتم بمحاور اللقاء الثقافي السابع الذي عقد نهاية الأسبوع الماضي بدعوة من مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني. تحاور سبعين رجلا ً وامرأة ً سعوديين من المعدودين على الوسط الثقافي بأنواعه الدينية والدنيوية، في إطار أربعة محاور أساسية: المحور الأول: التصنيفات الفكرية وواقعها في الخطاب الثقافي السعودي.
المحور الثاني: مغذيات التصنيفات الفكرية في الخطاب الثقافي السعودي.
المحور الثالث: أ - أثر التصنيفات الفكرية على الوحدة الوطنية.
ب - مسؤولية النخب في هذا الشأن.
المحور الرابع: محاولة بناء خطاب ثقافي يتجاوز التنصيف نحو الحوار والتعايش الفكري في ظل الوحدة الوطنية.
من خلال تحديد محاور النقاش يستطيع القارئ أن يستنتج الجدية المطلوبة.
قد عشنا طويلا ً في مجتمع يدعي الكمال في كل شيء تقريبا، ويدعي التناغم في الطبائع والمفاهيم والعادات والتقاليد، ويدعي الأمن الداخلي المضمون بالمطلق اجتماعيا ً وأخلاقيا ً.
ثم انفجرت في وجوهنا عدة مشاكل لم نكن نتحسب لها، بل وكنا بالأحرى ننكر وجودها ونلجأ إلى حفظها في مخازن المستقبل المغلقة.
أي بضاعة ومن ضمنها الفكر، تتعفن إذا خزنت طويلا ً وتنبعث منها روائح الفساد الكريهة، ثم يمتد عفنها إلى بضائع أخرى، وأهمها التعايش الفكري بين مكونات المجتمع المختلفة.
واحدة من هذه البضائع الفكرية كان التصنيف الذي أطلقته بحماس شديد تيارات الصحوة مستغلة حرب أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتي.
بسبب الحماس الديني لمقاومة الاحتلال الشيوعي لبلد إسلامي، بالإضافة إلى محاولة كبح جماح الدولة الخمينية المتلبسة بالمذهب الشيعي التوسعي، فتحت الأبواب والنوافذ والخزائن للثقافة الدينية.
لم تكن النتائج دائما ً حميدة، بل وكانت مروعة عندما نحسب الإرهاب والتكفير والتفجير والقتل على الهوية واحدة من تلك النتائج.
على المستوى الفكري تضخم نشاط الفكر المتزمت وتوارت الوسطية، واحتل جميع المنابر التوعوية والإرشادية والثقافية والإعلامية أيضا ً.
وصل الخلط إلى الفكر والثقافة بحيث صدرت آلاف الرسائل والكتب والأشرطة حول الحداثة في ميزان الإسلام، وكذلك الديموقراطية والانتخابات وحرية الرأي وحقوق المرأة والتعليم الطبي التطبيقي والمناهج الدراسية والصحون الفضائية اللاقطة والسياحة في الخارج.
باختصار خضع كل منحى من مناحي الحياة للأدلجة الدينية الصحوية بما في ذلك المظهر الخارجي للمواطن والمواطنة.
التعامل الأمني مع الجرائم الظاهرة للفكر الإرهابي كان فعالا ً وتم ردمه، على الأقل حتى الآن.
لكن الذي بقى هو الفكر نفسه، وهو فكر بعيد عن الوسطية وعن التعايش والحوار السلمي، بل هو مدمر لها.
عندما فقد هذا الفكر سطوته الإرهابية التفجيرية المباشرة، لم يفقد قدرته على التحريض والتكفير والتصنيف الإقصائي السلبي.
اكتمال المأساة حصل بسكوت وصبر السلطات، لعل الزمن يطفئ النيران، وبانتشار أدبيات هذا الفكر في الأوساط الشعبية التي صدقت بحسن نية أن التعايش المذهبي والفكري يهدد الدين الإسلامي نفسه ويدمر الأخلاق.
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني بشكل اكتساحي، انتشرت أيضا ً وسائل الطعن في الأعراض والعقائد والمذاهب والأخلاق، ولكن ليس في الفضاء المرئي الخاضع للرقابة، وإنما في الظلام الدامس من خلال الحسابات المغفلة لشبكات تويتر وفيسبوك واليوتيوب وأشباهها.
لم تعد المنابر الخطابية والتجمعات الليلية أحادية التوجه ضرورية للتكفير والتبديع والتفسيق والاعتداء والتحريض، لأنها على الأقل تخضع للرقابة الجزئية وانتشارها محدود.
توسعت الشقوق الاجتماعية حتى وصلت إلى التعامل مع الخارج ضد الدولة والوطن، مع إيران من جهة وحركة الأخوان المسلمون من جهة، ومع القوى الاستعمارية الغربية من جهة ثالثة بدعاوى حماية الديموقراطية والحريات والحقوق.
أعتقد أن الدولة بدأت لتوها تدرك تقصيرها في تفويت الفرصة التاريخية للتعامل الجدي مع بوادر التحريض، وذلك من خلال السكوت الطويل والاكتفاء بالقبضة الأمنية وترك انتشار الأفكار الهدامة التحريضية يتلاعب بالمستقبل.
من هذا المنطلق جاءت بادرة الحوار الثقافي بين مختلف المشارب الثقافية والمذهبية، رجالا ً ونساء، بدعوة من مركز الملك عبدالعزيز.
أعتقد أيضا ً أن هذه هي الخطوة الأولى في التعامل الصحيح مع الفكر التصنيفي التحريضي المهدد للوحدة الوطنية.