المرة الأولى لتجريب الأجنحة غادرت مدينة جدة متجهة إلى هيوستن تكساس بأمريكا، حيث كان مقر الملحقية الثقافية السعودية، وكان الملحق آنذاك أ. عبدالعزيز المنقور (أسعد الله أوقاته).
توقفت في الطريق إلى أمريكا بقامتي المديدة لما فوق السحاب وعودي الناحل وروحي الهامية الهائمة في عدة محطات.
كان في داخلي شغف معرفي جارف لأن أسير في شوارع مدن طالما سبقني عقلي إليها محمولاً على ريش أخيلة من كنت أقرأ لهم من الكتَّاب والكاتبات العرب والأجانب.
فقد كنت أريد أن أن أغمس أصابعي ببحيرة الأمنيات بإيطاليا وأمر على مقر الروائي الإيطالي البرتومورافيا وعلى كلية الفنون الجميلة بروما. وقد كان لي ذلك والتقيت وقتها من الطلاب السعوديين هناك الفنان بكر شيخون وزوجته صفية شيخون.
وكنت أريد أن أزور سومرست مووم وجورج أوزين ببريطانيا وأقف على ركن المتحدثين الساخطين بالهايد بارك وأشاهد على الأقل مسرحية واحدة لشكسبير بالندن وقد كان, وممن التقيت من الطلبة المبتعثين بإنجلترا آنذاك دلال حجازي وطالب الطب السعودي د. غسان مسعود وطلال الظليمي وآخرين.
بباريس كنت أريد أن أملأ نظري بجامعة السوربون، حيث درس طه حسين، وأسير في الحي اللاتيني، حيث تعرّفت سيمون دي بوفوار على سارتر وحيث انتفض عصفور من الشرق على يد توفيق الحكيم وأضاء قنديل أم هاشم وكتب يوسف إدريس على مقاهيه رواية ذلك الحي.
وبمتحف اللوفر لم تكفني عدة ساعات إلا أني تصبّرت بما شاهدته من روائع الفن الكلاسيكي الغربي والحديث مثل الموناليزا وأعمال فان كوخ ومانيه طوال ساعات التحليق الطويلة لقطع القارة الأوربية إلى المحيط الهادي.
في الرحلة التي استغرقت طيراناً سبعة أيام مع التوقفات، كان قلبي الصغير يرف بين أضلعي كعصفور انتظر بفارغ الصبر لحظة الاستقلال بأجنحته فلما حانت اللحظة أحس بدوار التحليق الأول وحده.
جاء توقيت رحلتي العلمية إلى أمريكا في الوقت الذي كانت فيه بلادي للتو تغط شظف وعطش الصحراء في فورة الطفرة النفطية الأولى لكنها لم تُغرق فيها بعد. كان التوقيت على ما أذكر وكأنه أمس حدياً على شفا الكثير من التحوّلات.
وربما لعبت الطبيعة الحدية لتلك المرحلة دوراً في تحديد دراستي، بل نشاطاتي اللا صفية وصدقاتي وخياراتي لحياتي الشخصية أيضاً. لأتوجه في دراستي الجامعية نحو تخصص خلته يشفي غليل أشواقي لفهم منطق وشروط ودينامكيت تحول المجتمعات من مجتمعات متخلّفة أو نامية لمجتمعات حديثة متقدِّمة, ولأنخرط في نشاط طلابي محموم عبر منظمة الطلبة العرب بأمريكا في التدرب على المشاركة الشبابية في دفع عجلة مثل هذا التحوّل المنشود في قائمة أحلامي الفتية وقتها.
فأقرّر أن أدرس علم الاجتماع كتخصص والشعر الأمريكي والعالمي جنباً إلى جنب وكأنني أريد أن أقابل بين الإلهام والبحث والمعرفة العلمية أو أريد الجمع بين جذوة الشعر وتربة الواقع وماء السراب في كف واحدة.
المنطقة ونحن على شفير التحولات
جاء توقيت رحلتي العلمية إلى أمريكا في أوج اشتداد إوار الحرب في لبنان بالتباساتها الطائفية وتحوّل طلاب الجامعة الأمريكية فيها من السعوديين وأنا منهم إلى جهات تعليمية أخرى. وكان ذلك التوقيت بعد أكثر من عامين لحرب رمضان التي شبّت على أثرها أسعار البترول وخبت نار القومية العربية وانشقت فيها المقاومة الفلسطينية إلى عدة فصائل تنظيمياً وبدا تقصيفها على أرض الواقع ببدايات مجازر تل الزعتر. ولم تكن المرحلة على الصعيد المحلي في وطني أكثر حيادية، فقد سافرت بعد رحيل الملك فيصل - رحمه الله- الفاجع وانطواء المرحلة التي اتخذت من شعار «التضامن الإسلامي» عنواناً لها في مواجهة المد القومي والناصري الذي كان قد بدأ انحساره قبل رحيل الرئيس المصري جمال عبدالناصر مطلع السبعينات وربما بعد هزيمة حرب حزيران مباشرة أو ما سُمي بنكسة الأيام الستة عام 1967م، وإن كان لترسبات تلك المرحلة أن تبقى ردحاً أطول من الزمان.
كان الزمن العربي حين رحيلي التعليمي يشبه راهن ما بعد الربيع العربي زمناً مشحوناً بشتى الاحتمالات فيما يتعلّق بمستقبل المنطقة.
وإن كان من الموضوعية القول الآن وإن بأثر رجعي بأن تلك المرحلة على المستوى الوطني المحلي كانت تشي بتحولات استنهاضية داخل المجتمع السعودي. ولم يكن ذلك بسبب الوفرة المالية آنذاك وحدها ومبادرة الدولة لتبني خطط التنمية الخمسية وبوادر العمران التجديدية لبُنى المدن الرئيسة التحتية، طرقات ومطارات ومستشفيات وجامعات، وحكومة دكاترة، وإعلام أكثر انفتاحاً تلفزيوناًً وصحفياً أو أقل تشدداً مع تقدّم موجة الأقلام الشابة المجدّدة ومع دخول منافسة ما صار يعرف بطيور الصحافة المهاجرة نحو إصدار صحف سعودية من الخارج، بل أيضاً نظراً لما بدا في المناخ العام والمناخ السياسي إلى ما قبل الثورة الإيرانية وحادثة الحرم, من تسامح في العلاقة بالتغيير الاجتماعي وإن جاء جله عفو الخاطر. على ما أعتقد, في مجتمع لم يكن قد تعقد بعد ولم يكن على دراية أو دربة بدرجة التعقيد التي يتطلبها انتقال المجتمع من الحالة الرعوية البسيطة إلى الحالة المدنية المعقدة. هذا بالإضافة إلى ما أفرزه التعليم النظامي للبنين والبنات وقتها من أجيال لم تكن قد أصابها «التوحّد» «الأوتيزم» بما يكفي لجعلها تستنكف سنة التغيير، وكذلك ما جاءت به الطفرة النفطية من تدفق غير مسبوق لعدد من الجاليات العربية والعالمية لسوق العمل السعودي بتأثيراتها السلبية والإيجابية المباشرة وغير المباشرة.
المقال القادم بإذن الله لمحة خاطفة من الأسرار الشخصية لما قبل سفري في رحلتي العلمية لأمريكا.
Fowziyaat@hotmail.comTwitter: F@abukhalid