أولاً، كل عام والجميع بخير، حج مبرور وهدي مقبول بإذن العلي القدير.
لعلي أبدأ بذكر حكاية عامل هندي كان في السنوات القليلة الماضية متخصصاً في صناعة مداخن المشبات الشعبية.. وكان له سمعة وصيت طافا أرجاء البلدات والقرى المجاورة، فالجميع يتعجب من هندسته في هذا التخصص الدقيق..
فمشباته تشع دفئاً ولا يُرى أثرٌ للدخان حولها.. ولم يستطع أحد منافسته في حرفيته ومهارته بالرغم من أن الكثير من أبناء جلدته حاولوا تقليده.. ولذا كان يعمل على مدار الساعة، وبالسعر الذي يريد، ويتنقل على حساب أصحاب المنازل من بلد لآخر محفول مكفول، وهو فوق ذلك، حسب الوصف الشعبي، راعي المعروف.. ولذا لم يستغرب أنه أيضاً كان كثير التدلل والتّشرط، ولا يشتغل إلا على المضمون.
وكان لهذا الحرفي الماهر ولدٌ حاول أخذ الصنعة منه، لكنه رفض أن يُعلّمه الصنعة، ربما ليس كرهاً أو بخلاً، بل كان يخاف أن يفشي ابنه سر مشباته المبهرة.. ويتداول أهل البيوت الذي عمل بها أنه ما أن يدخل الغرفة أيًا كان حتى ولو كان طفلاً، أو دابة إلا وألقى بعدته على جنب وتوقف عن العمل متظاهراً بالتعب، وتدور شائعات اليوم على أنه إما رحل لبلده أو توفي.. توفي وما زالت مئات المشبات التي صنعها تُدفئ الناس، والمداخن التي عمرها تعبق الأجواء برائحة السمر، وفحم القرض.. ويقال إن ولده الآن يمارس المهنة ذاتها ولكن شتان بين التي واللتيا، فدخان الأب يعبّق الأجواء، ودخان الابن يعبّق الصدور، والسر يكمن في ميول دقيق جداً داخل المدخنة يسمح للدخان بالخروج دون الارتداد للداخل.
العبرة من سيرة هذه الرجل هي معرفة أن الخبرة في أي أمر مهما كان تافهاً تُعد أمراً مهماً جداً، فالخبرة أساس المهنية والصنعة الجيدة. هذا في أمر بسيط جداً فما بالنا بالأمور الأهم والأكبر.. وهذا الأمر ليس غريباً أو جديداً، فجميع الشركات والإدارات تشترط على من يعمل بها سنوات خبرة بالعمل، ومديرو الموارد البشرية يعرفون جيداً أن الخبرة أحياناً أهم من الشهادة.. وقد قال أحد الفلاسفة إنك لا تعرف طبيعة أي شيء ما لم تحاول أن تغيِّره.. والخبرة النظرية هي بمثابة الخريطة من الأرض، تدلك على الطريق ولكنها لا تعلمك التعامل مع التضاريس والصعاب.. فالخبير في الأمر يكون ملماً بأوجه الأخطاء فيه، ولذا يتجنبها ولا يقع فيها، وهو أيضاً يعرف كيف يُعالج الأمور المستجدة والطارئة.
وعندما نبحث عن شركة لتنفيذ مشروع ما، فإننا نركّز على الخبرة ونشترطها، وصدّقوني أن العمل مع شركة ليس لها خبرة يُعد مخاطرة لا بعدها مخاطرة، فهي تكون «كالغشيم المتعافي» الذي يتعلم أو يجرب في فئران تجارب، تتعلم وتكتسب الخبرة من ضحاياها من العملاء.. وفي عالم اليوم المتغيّر الذي تحتل التكنولوجيا فيه مركز الاهتمام تكون الخبرة أهم من أي وقت مضى، ودول العالم تتقاتل وتتصارع، وتتجسس على بعض من أجل الحصول على الخبرة التقنية.. فالخبرة التقنية اليوم لا تتأتى إلا بمشاريع ضخمة جبارة.. والخبرة المتراكمة قد تكون أهم من المشاريع ذاتها، والمثل يقول: علّمني كيف أصطاد ولا تطعمني سمكاً.
ومرت بلادنا في الأعوام القليلة السابقة بطفرة على كافة المستويات، وتحولت لأكبر ورشة عمل في العالم، وكان ينفذ لدينا في القطاع العام فقط من المشاريع الإنشائية ما يزيد على أربعمائة مليار سنوياً.. ودخلت كبريات شركات العالم من الشرق والغرب والشمال والجنوب إلى سوقنا، ونفذت مشاريع متراوحة الجودة.. والعامل المشترك لجميع المشاريع هو عدم وجود الشباب السعودي فيها.. أي أن الشركات الأجنبية، أو السعودية اسمٌ فقط تعاملت معنا تعامل مهندس المداخن الهندي السالف الذكر مع من حوله.. بل إن بعضها أتى بشبابه من بلاده ودرَّبه عملياً في مشاريعنا، وأكسبه خبرة على حسابنا.. بينما بعض شريطية المقاولات، مهما كبرت مسمياتهم وأحجام مشاريعهم، لم يفكروا للأسف أبعد من جيوبهم وأرصدتهم، وساعدوا هذه الشركات على التّنصل من توظيف الشباب السعودي بمختلف الحجج والأعذار.. أيعقل أنه من هذه المشاريع الضخمة لم يخرج لنا أي شاب سعودي بخبرة تذكر؟.. هذه في رأيي واحدة من أهم مآسي التخطيط لدينا.
فهناك مهندسون ومعماريون سعوديون شباب انتزعوا اللقمة من فك الأسد، وأثبتوا جدارتهم وعلو كعبهم على شركات هندسية تفوقهم حجمًا ومالاً وعقوداً. انتزعوا لقمتهم ممن؟ من وسط يصر على تهميشهم وعدم الثقة فيهم.. فلدينا مصممون معماريون ومهندسون في مختلف المجالات نفتخر بهم، ولكنهم وللأسف لا يمنحون المشاريع الكبيرة، ولا إمكانيات النمو التي تتوفر للشركات الوافدة.. كلياتنا تُخرِّج مئات المهندسين والخبراء في كافة المجالات، مهندسين وخبراء نخسر عليهم أموالاً طائلة لتدريبهم، ثم يخسرون كل ما تعلموه بالتقادم لأن الشركات الأجنبية، والشركات الأجنبية المتسعودة لا تشغِّل إلا أبناء جلدتها فقط لأنها تريد أن تطير بزبدة المشاريع: الخبرة والمعرفة العملية لبلدانها.. أما نحن فنُترك بمنشآت جاهزة على المفتاح لا نعرف فيما بعد كيفية صيانتها، فيتحكمون فينا عبر الصيانة لسنوات طويلة وبأسعار يحددونها هم، ليضيفوا على قيمتها أضعافاً مضاعفة. يحدث ذلك حتى في مشاريع الجهات والمعاهد المهنية التي تُخرّج المهندسين والمهنيين.. وفي بعض الأحيان نجد أن المشروع بأكلمة شكل بدون مضمون، تسلمناه من الخارج ولم نعرف عن الداخل إلا فيما بعد.
لا يعقل أن تكون لدينا بطالة ولدينا هذا الكم الهائل من المشاريع.. والحلول المائعة التي نحاول بموجبها معالجة هذا الخلل، من نطاقات وما شابهها من برامج وزارة العمل، حسب القول الشعبي، لا تسقي من الساقي، ولم تجد نفعاً. كما أنه لا يعقل أن يتقلص حجم شركاتنا السعودية الشابة الطموحة أمام منافسة غير عادلة أجنبية يتستر عليها أفراد لا يعرفون عن أعمالها شيئاً.. فهناك بلا شك فرق كبير بين النهضة والعمران، والفرق بينهما الخبرة.. فالنهضة تتطلب اكتساب الخبرات محلياً وتطويرها وتوارثها جيلاً بعد جيل، أما العمران فهو مشاريع على المفتاح لا نعرف كيف أقيمت وماذا بداخلها؟.. ولو نهضنا بعملنا وجهدنا بمشروع متوسط أفضل لنا بكثير من مشروع عملاق أجنبي يُنفذ على أرضنا مقابل المال.. ولا أخفيكم القول بأن مفهوم «نقل التكنولوجيا» بمشاريع كهذه والذي صدَّقناه لمدة تزيد على أكثر من ثلاثين عاماً لم ينجح.. وفي رأيي فالتكنولوجيا تُطور وتُؤخذ أو حتى تُسرق ولكنها لا تمنح أو تنقل، ولنا في الصين وكوريا وغيرها عبرة واضحة للعيان.
والمثل الإنجليزي يقول أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً، وليت دولتنا الموقرة تتخذ قرارات لا استثناءات منها ولا تلاعب بها بمنح جميع المشاريع المستقبلية والحالية إن أمكن لشركات أغلب خبراتها سعودية، أو تلزم كل الشركات الأجنبية العاملة بتشغيل وتدريب شباب سعودي، وأن تضع لجان لمراقبة إتاحة الفرصة للشباب السعودي حسب أرقى معايير المهن.. ولا شك يخامرني أننا سنرى لذلك آثاراً مستقبلية لم نكن نحلم بها، وسترتفع القيمة الاقتصادية الحقيقة وليس القيمة الرقمية فقط بشكل لم نتوقعه.. كل ما علينا هو الإصرار على منح الفرصة في مشاريعنا لشبابنا، فالخبرة مربط الفرس.