تتسارع الأحداث في منطقتنا بشكل يصعب معه فهمها وتداعياتها بشكل واضح مما حدا بالبعض لتصديق نظرية ما يسمى “بالفوضى الخلاقة” على أنها أمر مبيت ومخطط له في منطقتنا. وطبيعي أن يسود مثل هذا الاعتقاد لأن هناك نوعا من الفوضى لا تخفى على أحد في منطقتنا ولكن القوى الخارجية لم تخطط لها، كما يعتقد،
بل توقعتها وتحاول الاستفادة منها. وعلى وجه العموم الفوضى كمصطلح علمي هو جزء من نظرية علمية في فلسفة العلوم تسمى نظرية الفوضى (Chaotic Theory) وتستند إلى أن الفوضى لها منطق داخلي منتظم خاص بها يتجلى في أنه إذا ما توفرت العوامل والظروف ذاتها بأي شكل عشوائي أو فوضوي فإنها تفضي إلى النتائج ذاتها، وهو أمر يحصل في الفيزياء، والطقس وغيرها من الأمور، إلا أن منطق الفوضى يختلف عن منطق الظواهر الأخرى بأنه لا يمكن التنبؤ بنتائجه مثل الأمور المنتظمة. وكثيرا ما رددنا أن التاريخ يعيد نفسه وغاية الأمر أن الظروف تعيد نفسها بشكل متقارب فتعاود الظواهر البروز بشكل متشابه.
ما يحدث في منطقتنا هو فوضى منتظمة لو نظرنا لها بشكل كلي، أي بمنطق زماني ومكاني يشمل المنطقة كافة وغيرها من المناطق السياسية، والديمغرافية، والاقتصادية التي تتفاعل فيها ومعها. فكون منطقتنا تزود العالم بحصة كبيرة من حاجاته للطاقة يجعلها حتما منطقة جذب وتجاذبات عالمية. ونشاهد اليوم عودة لصراعات تاريخية قديمة حسبنا أنها ولت وانتهت ولكنها عادت بشكل أو بآخر للبروز نتيجة لتوفر ظروف تاريخية مشابهة لتلك التي أتت بها في حقبات مختلفة من تاريخ منطقتنا.
ولا يخفى على أحد أن لكل فعل رد فعل أو ردود أفعال تتناسب مع حجمه وطبيعته، وهو ما يطلق عليه بالتداعيات، سواء كان ذلك في مجال السياسية أو الحروب. فالفوضى التي تركها العثمانيون في منطقتنا في أواخر حكمهم، وتذويبهم للهوية العربية في ظل الخلافة الإسلامية، أدت إلى ظروف مواتية لإنشاء دولة جديدة في جزء من منطقتنا هي إسرائيل، وهي كيان غريب تاريخيا وأثنيا على المنطقة، مما ترتب على ذلك تداعيات عنيفة وعميقة مناسبة لطبيعته ما زلنا نشاهدها حتى اليوم. وقد أفرز ذلك حكومات عسكرية، وحركات تحرر امتدت في كافة أرجاء العالم العربي، وأذكى ذلك عواطف عربية تشكك في كل من ساعد في إنشاء هذه الكيان أو يدعمه أو يقيم علاقات معه. وبما أن دعم هذا الحدث في الغرب يستند لأمور دينية وعاطفية فقد استمر الغرب في محاولة موازنة صداقاته ومصالحة الاقتصادية في المنطقة مع حماية هذا الكيان بشكل يتعارض ويتناقض أحيانا مع هذه المصالح. ومما فاقم عدم الاستقرار في المنطقة رغبة هذا الكيان في التوسع كلما استطاع ذلك، وفشل الغرب في احتوائه، أو حل القضية الفلسطينية حلاً جذريا. أما الكيانات العسكرية التي تسلحت كردة فعل على هذا الحدث فيما يسمى بدول المواجهة فقد أصابها اليأس من قدرتها على اقتلاع هذا الكيان الذي يتجذر يوم بعد الآخر، وإثر تلقيها لخسائر عسكرية متلاحقة منه فحاولت التعويض بانكفائها وإحكام قبضتها على داخلها وما حولها فنشأت صراعات جانبية أخرى في الأردن ولبنان وغيرها. والحقيقة أن الأوضاع في لبنان وفي الأردن في السبعينيات كانت تحكمها الفوضى وتم تجاوز تلك المرحلة بدون حلول جذرية لمسبباتها. ويمكن القول إن الفوضى الديموغرافية والسياسية عمت مصر أيضا بعيد هزيمة حزيران عام 67، رغم الاستقرار الظاهري في عهد مبارك، ومازالت تداعياتها متجذرة حتى اليوم.
الحدث الآخر المؤثر في المنطقة الذي له تداعيات قوية نشاهد تفعلاتها اليوم هو ظهور الإسلام السياسي في إيران بعد الخميني عام 1979م كنظام جديد طارئ على المنطقة حاول أن يجد له مكان فيها بزعزعة استقرارها وإحداث تخلخلات في وضعها السياسي، والديمغرافي لتثبيت وجوده، والاختلاف بينها وبين إسرائيل نسبيا فقط. فكانت حرب العراق الأولى التي استمرت لثماني سنوات، وظهور إيران بمظهر الضحية وتعاطف بعض الأقليات الإثنية من أصول إيرانية، وأقليات مذهبية معها. فالدين هو ما يحرك إسرائيل وإيران. ولم تشهد إيران استقرارا إلا في التسعينيات، فترة حربي تحرير الكويت الأولى والثانية. فكان سقوط العراق حدث مهم لها بقلب الموازين الطائفية والجيوسياسية في المنطقة وما نشهده اليوم من فوضى في المنطقة هو لتداعيات هذه الأحداث المتلاحقة التي حصلت في وقت قصير بما لم يسمح للمنطقة بالاستقرار.
سقوط الحكومة العراقية أدى إلى نزوح التقنية العسكرية العراقية لإيران، وإلى قلب معادلة الحكم في العراق بحيث استقل الأكراد فعليا وليس سياسيا بشمال العراق، وسيطرت القوى الشيعية على ما تبقى منه في دولة طائفية بواجهة ديمقراطية تسيطر فعليا عليها إيران. فتوقف المد المذهبي على الحدود السورية ذات الأغلبية السنية، وامتد طبيعيا للبنان حيث التنوع الطائفي، وحيث السيطرة السورية لعقود ما بعد سقوط البعث العراقي. فسوريا تحالفت مع الميلشيات الشيعية في لبنان: أمل، وحزب الله للتحكم في لبنان بحجة مقاومة إسرائيل. ولو نظرنا لهذه الأمور مجتمعة لعرفنا أن الخارطة السياسية للمنطقة تغيرت بشكل جذري لا بد وأن يتسبب في تداعيات أخرى.
الأحداث التي مرت بها المنطقة جعلت الحكومات تدخل في تناقضات مع شعوبها التي تفتقر للنظرة السياسية الثاقبة وتحكمها العواطف والشعارات. فالشعوب زرع فيها العداء شبه العقدي لكل ما هو غربي أو أمريكي على وجه الخصوص بسبب قضية فلسطين أولا وحرب تحرير الكويت ثانيا، فالبعث العراقي تبنى سياسة دعائية ضد أمريكا تشبه السياسة الدعائية التي تتبناها إيران وسوريا وحزب الله اليوم بربط صراعاته الداخلية بما يجري بالقضية الكبرى قضية فلسطين رغم أن الفلسطينيين المعنيين مباشرة بالأمر لا يقرون بذلك. ولا شك أن المستفيد الأول من الفوضى في منطقتنا هي إيران وليس الغرب، أما إسرائيل فهي مستفيد ثان من هذه التداعيات والأخطاء.
تفاقم الخلافات بين الشعوب والحكومات ظهر في تونس، واليمن، وانتقل لليبيا ومصر، والعامل المشترك بينها هو أن الأنظمة الحاكمة فرضت حالة من الركود السياسي والاقتصادي لوقت طويل أدت إلى ضجر الشعوب منها لاسيما مع تفشي البطالة والأحول الاقتصادية السيئة نتيجة لسوء الإدارة. وهذا أدى إلى بروز المد الإسلامي في هذه الدول احتذاءً بإيران ولكن بطابع سني، فالوعي السياسي لدى هذه الشعوب لم يتطور بعد، وهي لا تعرف ما تريد بالضبط، ولجأت للشعارات والطروحات الدينية.
حكومة الأسد ومن خلفها إيران لم تدركا التغييرات من حولهما، فالظروف لم تعد تسمح باستمرار حكومة عسكرية مثل البعث السوري، وإيران التي حاربت البعث العراقي على أنه علماني فاشي ألقت بكل ثقلها إلى جانب أكثر الأنظمة شبها بنظام العراق البعثي وهو البعث السوري. وشجعت لجوء حكومة الأسد للعنف بهذا الشكل البشع ضد شعبه مما أعاد القوى العالمية للمنطقة مرة أخرى. فإيران تعتقد أن لها فرصة ذهبية للتوسع العسكري والسياسي في المنطقة تحت غطاء مذهبي، والأسد يعتقد أن دعهما ضروري لإبقاء قبضته على سوريا، وإسرائيل ترى في توسع إيران مبررا لتوسعها، وعذراً لابتزاز الغرب اقتصادياً وعسكرياً.
لذا فأحداث المنطقة تطبعها الفوضى ولكنها فوضى منتظمة يمكن فهمها كتداعيات لتتابع أحداث المنطقة، ومن المتوقع جداً ضرب سوريا وإنهاء حكم الأسد لها، لكن سيكون لذلك تداعيات أخرى متوقعة في لبنان وتركيا (وربما غيرها) على وجه الخصوص نتيجة لانحسار الدعم السوري والإيراني لحزب الله في لبنان، ولاحتقان الوضع السني العلوي في جنوب تركيا حيث يقيم 20 مليون علوي تقبلوا الحكم السني لحزب العدالة والتنمية السني على مضض، وبدأوا بالتظاهر بحجة خروج الدولة عن منهج أتاتورك، لا حبا لعمر ولكن كرها لزيد. نأمل أن يتم التحرك لاحتواء الفوضى بحل القضية الكبرى فيها أولاً وهي قضية فلسطين، فالحل النهائي لها هو الوحيد الكفيل بإخراج المنطقة من حالة الفوضى وعدم الاستقرار.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود