نحتفل هذه الأيام باليوم الثالث والثمانين لوطننا الحبيب، وهي ذكرى غالية علينا جميعا إذ إنه اليوم الذي تحولنا فيه لبلد موحد، عزيز، منيع بعد أن كنا أقاليم وقبائل شتى، وهي نعمة نشكر الله عليها أولا، ونشكر فيها قائد وحدتنا ومؤسس دولتنا وكل من قاتل معه وساعده في توحيد البلاد وإرساء دعائمها والمحافظة على السلم والأمن فيها...
...فلا يغالط إلا مكابر في أننا خطونا خطوات كبيرة جداً في هذه الأعوام في كل مجال من مجالات التطور.
غير أن اليوم الوطني ليس ذكرى فقط، وليس مناسبة للاحتفال فقط بل هو تذكرة بواجبات الجميع تجاه هذا الوطن سواء كانوا دولة، أو مسئولين، أو رجال أعمال، أو مواطنين، تذكرة بضرورة الحفاظ على هذا الوطن والبناء على مكتسباته والإضافة لها لا الفرح بها فقط؛ إذ إننا يمكن أن نفرح ونحتفل ولكننا يجب ألا نقنع ونركن لما حققناه، فنحن نعيش اليوم في مرحلة حرجة يستهدف فيها متربصون كثر مكاسب هذا الوطن، و بعضهم لا يغمض له جفن في محاولة المساس بهذه المكتسبات، أو وضع الأسافين في عجلة تطورنا، لأنه يرى نفسه في منافسة تاريخية معنا.
واليوم الوطني هو وقفة مع الذات لنراجع ما حققناه في العام المنصرم، وما يجب أن نحققه في العام الجديد. وقفة مع الذات نراجع فيها أخطاءنا أيضاً ونضع الخطط والحلول لتصحيحها، فنحن لسنا مجتمعاً متكاملاً، ولسنا دولة بلا أخطاء، ولذا يجب أن نكون جزءاً من العالم الواعي المتحرك الذي يسارع لتصحيح أخطائه والاستفادة منها في المستقبل، لا جزءاً من العالم الراكد الذي يدفن أخطاءه وينام عليها، ويدفع ثمنها في كل مرة تبرز له مجدداً.
واليوم الوطني هو لحظة تأمل لواقعنا وواقع العالم من حولنا، لمراجعة مواقفنا منه، وموقعنا فيه. فالعالم من حولنا يتحول بسرعة مذهلة غير مسبوقة في التاريخ و في الجغرافيا تستفيد من فرصها دول، وتكوى بسرعتها دول أخرى، والفائدة والغلبة دائما لمن يستطيع قراءة عناوينها ويستبق أحداثها، لا لمن يتجاهلها، أو يحاول إيقافها.
واليوم الوطني تذكرة للجميع بأن بناء الوطن والحفاظ عليه ليس مسئولية الحكومة فقط، ولكنه مسئولية كل من يعيش على أرضه وينعم بخيراته. لكن المسئولية بطبيعة الأمر تنناسب طرديًا مع مدى الاستفادة من خيرات الوطن. وهنا يجب أن نتعلم من الدول الناجحة التي يتسابق ابناؤها لجلب الثروات من الخارج لبلادهم، لا تلك الفاشلة التي يتسابق الناس فيها لإخراج ثروات بلادهم خارجها. فالاستثمار في الوطن هو أفضل احتفال به وأكبر مؤشر على الثقة في مستقبله.
اليوم الوطني هو يوم تعزيز تقارب الحكومة مع الشعب، وزيادة اللحمة والثقة بينها وبين الشعب بمختلف طوائفه وهذا لا يتأتى إلا بزيادة الثقة فيه، وزيادة ثقة في المواطن واحساسه بالمسئولية تجاه وطنه. فبالثقة بالمواطن وحدها يرتفع حس المواطن بالمسئولية تجاه الوطن، و يتذكر واجبه بالمسئولية تجاهه. والتاريخ ينطق بأن الدول التي منحت مواطنيها الثقة كاملة هي تلك التي تقدمت والتي يضحي فيها المواطن دون وطنه، وأن الدول التي حجبت الثقة عن مواطنيها خلقت منهم مواطنين اتكاليين يبحثون دائماً عمن يتحمل المسئولية نيابة عنهم.
اليوم الوطني هو مناسبة لجميع المسئولين ليتذكروا ما قدموا لوطنهم من مواقع مسئوليتهم، لمراجعة ذواتهم، وأداء أجهزتهم، ليس ليفتخروا أو يفاخروا بها كإنجازات شخصية ولكن لينظروا لها كمكتسبات وطنية. فاليوم الوطني مناسبة مواتية لهم ليقدموا لوطنهم ما يتذكرهم به وطنهم وليس العكس.
اليوم الوطني تذكرة لجميع من يتغنى بأرصدته في الخارج بأن وطنه في الداخل أحق بها من الخارج، وأن هذه الأرصدة تبقى أرقاماً صماء ما لم تتحقق في منجزات يراها الجميع ويبني عليها إنجازات أكبر في المستقبل. والتاريخ يعلمنا أن جميع من اعتقدوا أن ارصدتهم ستكون وطنا بديلا لهم فقدوا وطنهم وفقدوا وطنهم معه أيضا.
اليوم الوطني ليس ذكرى للماضي بل يجب أن يكون ذكرى للمستقبل أيضاً، وهنا يجب أن تختلف كل ذكرى عن سابقاتها بمنجزات وعطاءات تخلدها، لا أن تبقى رقما تضاف لسابقاتها، او إجازة للسفر للخارج. فنحن نتذكر اليوم الوطني الأول ليس لأنه يوم مهم من تاريخنا فحسب، بل لأنه اليوم الذي انجزنا فيه وحدتنا، انجاز تاريخي عظيم يجب أن نقيس عليه إنجازات بقية أيامنا الوطنية. وعليه فيجب أن نخطط لليوم الوطني القادم من اليوم الوطني الحالي.
فالدولة عليها أن تقدم في هذا اليوم العظيم لمواطنيها ما يدعم حقوقهم ويزيد من مسئوليتهم تجاه أنفسهم. فيمكن أن يكون اليوم الوطني مثلا احتفالا بانخفاض مستوى البطالة بنسبة غير مسبوقة في سابق الأيام الوطنية، أو بحل نسبة كبيرة من أزمة السكن، أو القضاء على الفقر، وتحسين مستوى التعليم، او منح حقوق إضافية للمواطن والمواطنة. وأن يكون اليوم الوطني مراجعة لبعض القرارات السابقة، وإصدار قرارات جديدة تطبع في ذهن المواطن ذكرى اليوم الوطني، وتحفر في تاريخ الوطن منجزات جديدة.
والمستفيدون الكبار من الوطن من رجال أعمال وغيرهم عليهم إضافة مكتسب جديد لوطنهم في كل عيد من أعياده يخلد وطنهم ويخلدهم معه، فالإنجازات هي ما يبقى وليست الأرصدة المالية التي يأكلها التضخم وتستفيد منها دول أخرى تحتفل بزيادتها في أعيادها الوطنية. فالمتاحف والجامعات هي من خلد أسراً مثل قوقنهايم، وكارينيجي، وسنانفور، وبفيت وليست أرصدتهم المالية خارج وطنهم.
واليوم الوطني للمواطن ليس مناسبة احتفال وتجمهر في الشوارع، بل هو تذكرة بأنه يجب عليه أن يعمل أكثر من العام السابق ليسهم في بناء الوطن، بأنه مؤتمن على إنجازات الوطن وأمنه، فالأوطان بمواطنيها وليست بثرواتها، وكما قال الرئيس كينيدي، لا تسأل ما قدم وطنك لك ولكن اسأل ما قدمت أنت للوطن! اليوم الوطني تذكرة لنا جميعا بأن نحافظ عليه آمناً ونظيفًا، وأن نبتعد عن كل ما يكدر صفو أمنه، ويسيء لبيئته، ويخل بنظافته.
أعاد الله علينا أيامنا الوطنية علينا جميعاً بمزيد من العزة والكرامة والرخاء، وحمى الله بلادنا من كل شر.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود