تضج ساحتنا الرياضية الآن بما لا نستطيع وصفه بدقة أو بموضوعية. فإن قلنا احتقان، فقد تعدينا ذلك بمراحل. وإن قلنا خروج عن النص الرياضي وتجاوز لحدود المناطق الآمنة لرياضة صحية وتنافسية شريفة، فقد ابتعدنا عن تلك الحدود لدرجة لا نكاد معها أن نعرف من الأساس أين كانت. فالتجاوزات الجماهيرية التي تحصل في مختلف المدرجات من إساءات وتجاوزات لفظية أو عنصرية يجب أن تخضع لردع قوي وحازم عبر قنواتها الرسمية فقط بمنتهى السرعة والعدالة بعيداً عن اللت والعجن الإعلامي. فتختفي معها ألوان وميول المخطئ، فقد قيل إن ميزان العدالة أعمى ولم يقل إنه ظالم.
تاريخ التجاوزات اللفظية أو الفعلية بمختلف أنواعها طاعن في القدم، ويمشي بالتوازي مع تاريخنا الرياضي. ولكنه على مر الزمن كان إما أن يواجه بصرامة تقمعه أو بتجاهل يلغيه ويجعله يقتل في مهده. فمن يتخيل أن بعض الأهزوجات البذيئة عرضت في قناتنا الرياضية (بغير قصد) خلال لقاء جرى في عام 1401هـ. ثم اختفت (بالتجاهل فقط) لسنين طوال إلى أن أيقظها من سباتها بعض الخارجين عن الذوق والأدب في فترات متقطعة، فهي مرتبطة بمستوى أخلاق من أطلقها وليس بميوله الكروية. حوادث أخرى مرت على رياضتنا كان بتجاهلها الحل الأمثل للقضاء عليها، مثل: رفع رايات سوداء في مدرجات أحد أنديتنا الجماهيرية كنوع من الاحتجاج في عام 1425هـ، ورغم فداحة رمزية الرايات السوداء والتي أريد بها إعلان وفاة الضمائر والعدل وشرف المنافسة إلا أن التعامل المناسب معها أخفاها ومنع تكرارها ودليل ذلك اختفاؤها منذ ما يقارب العقد من الزمن. حرق شعار نادٍ منافس في مدرجات أحد الفرق في عام 1426هـ، أمر جلل ومدعاة لخلق الكراهية والرغبة بالانتقام، أيضاً تم التعامل معه بوعي دون تصعيد أو ابتذال فاختفى مثل سابقيه، بل يكاد يخفى عن الكثير من الرياضيين رغم أن الحادثة تم نقلها تلفزونياً وعلى الهواء مباشرة.
ما يجب علينا فعله (إن أردنا فعلاً) تنقية رياضتنا من كل هذا الدرن الذي بدأ يعتريها ويثقل كاهلها أن نتعلّم فن الاحتواء، فالتصعيد والتفنيد وفرد الصفحات ليس الحل الأمثل لكل قضية. لا أدري لماذا كلما أعيد فتح النقاش مرة أخرى عن العبارات العنصرية في ملاعبنا أتخيل عدة رجال متحملقين حول قطعة خشب تحترق، وبدلاً من رش الماء عليها أو تركها لتأكل نفسها، تجدهم يصرخون بأعلى صوتهم: حريق! حريق! ويرمون عليها المزيد من قطع الحطب ليكبر الحريق ويراه من يسكن في الحارة المجاورة. ليثبتوا للجميع أنهم من رأوا الحريق الذي يخافون عليه من الانطفاء قبل أن يراه القاصي والداني. يجب أن يعي إعلامنا الموقر أن الجماهير التي تخرج عن النص والتي تقوم بتلك المخالفات عبارة عن أشباح في عرف قوانينا الرياضية، ولن ينالها (شخصياً) من العقوبات ما يردعها ما دام حافزها عاطفياً متشنجاً يصدر في لحظة غضب أو فقدان للأعصاب منطلقين من مبدأ غذَّاه إعلاميون يدندنون على مشاعرهم وعواطفهم ويغذّونها بالكراهية والتفرقة ومبدأ المؤامرة طوال الموسم. تخيلوا معي فقط لو أن كل تجاوز جماهيري تم الرد عليه من البرامج الرياضية بهذه العبارة البسيطة: (نحن منبر رياضي محترم نرفض تكريس مثل هذه العبارات والتصرفات ونترفّع عن مناقشتها في برنامجنا، وعلى اللجان المختصة القيام بما هو مناسب ضمن القانون). تخيلوا نتيجة هذه العبارة، وما مدى تضخم أو انتهاء القضية بعد هذا التصرف الواعي.
فلنحاول تغيير نهجنا الإعلامي، ونترك للاحتواء فرصة، بعد أن أعيانا التصعيد وزاد طيننا بلّة. فهل نحن فاعلون؟
بقايا...
- قد أعذر انفلات مشجع في المدرج وهو في قمة توتره وحماسه أن يقوم بفعل خاطئ (تجاوزاً)، ولكن من الصعب أن أقبل من محلِّل تلفزيوني بعد أن انتهى اللقاء بأيام وبعد تجهيز نفسه للحلقة وقد شرب كوباً من الشاي وتأنق وتجهز لمشاهديه أن يقوم بمحاولة إثارة الضغائن والتفرقة بهذا الشكل النتن، ما الفائدة التي تنتظرها؟!
- مضحك جداً أن يتهم شخص في تربيته وأخلاقه بسبب ميوله، أليس في بيوتنا أشقاء هلاليون ونصراويون واتحاديون واهلاويون؟ أم تم ابتعاثهم لأنديتهم للتربية هناك؟ قليلاً من التعقل والأدب مع الذات قبل المتلقي.
- سنظل نعاني من الانفلات الإعلامي الذي لا تحمد عواقبه إلى أن نصل لقضايا قتل أو مشاجرات بإصابات خطيرة بين مشجعين محتقنين، ما لم يتم محاسبة وتهذيب من يقودون الآراء العامة لشباب عاشق متيم بفريقه.
- سؤالي لك عزيزي القارئ: أتذكر حالات اقتحام المشجعين للملاعب، وكيف زادت وتيرتها عندما كانت تعرض وتوضع لها فقرات خاصة ويتم إشباعها طرحاً وتمحيصاً؟ وكيف انعدمت الآن عندما منع تصويرها ووضعت لها العقوبات المناسبة؟ فهل الهدف مناقشتها أم إنهاؤها؟ لك الحكم والرأي.
خاتمة...
عقل المتعصب كبؤبؤ العين، كلما زاد الضوء المسلط عليه زاد انكماشه
(أوليفر وندل هولمز)