يعتبر طريق حاج البصرة من أهم الآثار الإسلامية العمرانية في الجزيرة العربية التي حفظها المؤرخون من البلدانيين وأصحاب المعاجم من التزييف والتغيير والتبديل، وعلى الرغم من أنه ارتبط بالحج أكثر من أي نشاط آخر، إلا أنه في حقيقة الأمر كان طريقاً تجارياً قديماً عُرف في العصور القديمة السابقة للإسلام حيث كان يربط بلاد ما بين النهرين (فارس، خراسان وأواسط آسيا) بالحجاز عبر النباج (الأسياح الآن).
قال عنه الشيخ محمد بن ناصر العبودي: (والقصيم كان يخترقه طريق الحج العظيم من جنوب العراق وفارس الذي هو طريق البصرة مما جعله يكاد يكون البلاد الوحيدة في نجد التي استمر ذكرها منشوراً، وخبرها مشهوراً، بعد أن نسيت معالمها الأخرى أو كادت في عصور الظلام).
ولطريق حاج البصرة فضل كبير في بقاء بعض البلدان مثل النباج (الأسياح الآن) على وجه الخصوص والقصيم بشكل عام باهتمام البلدانيين والمحدثين فيه وإلا لأهمل مثل غيره من بلدان نجد في تلك الفترة.
ويبدو أن وهج الخلافة وانتقالها إلى بغداد ثم دمشق ساهم بشكل كبير في أن ينشغل هؤلاء الكتاب والمؤرخون بما يحدث في بلد الخلافة وما يصاحبها من فتوحات إسلامية، وانشغالهم أيضا بأخبار قصور الخلفاء والحكام وما يجري فيها من قصص الجواري والقيان والخدم، وفي الوقت نفسه عدم الاهتمام بأمن الخلافة وما يجري فيها من أحداث تستحق التدوين.والمتأمل لما كتب في طريق حاج البصرة يجد الدقة في الوصف سواء للبلدان التي يطأها الطريق من أماكن ورمال وشعاب ونحوها من معالم الطريق، أو الدقة المتناهية في تحديد المسافات بين تلك البلدان والأمكنة، بعكس ما يحدث لبلدان نجد الأخرى التي يذكرها أصحاب المعاجم القديمة كقولهم وهم يصفون مكان ماء: وهو اسم موضع، وقولهم: هو ماء في جزيرة العرب، وقولهم: هو موضع ما بين اليمامة والحجاز.
ولو قرأت لأشهر من كتب في هذا المجال وهو ياقوت الحموي في معجمه الشهير الموسوم بمعجم البلدان لوجدت مثل هذا كثيراً.
قال ياقوت وهو يعرِّف في بعض البلدان: (عَرَداتُ: وهي بين اليمن وبين نجد) وقال: (عْقَدْ: موضع بين البصرة وضرية)) وقال: (حمّار: موضع بالجزيرة)
ولكن نجد ياقوت في ذكره للبلدان والأماكن الواقعة على طريق الحاج، يسهب في الوصف ويحدد معالمه وحدوده بدقة كبيرة، ولو نظرنا الى من كتب عن (السمينة) وهي مجرد مورد ماء لطريق حاج البصرة وهي من نواحي النباج ولم يكن لها شأن كما النباج لتبين لنا كيف أن طريق حاج البصرة وما كتب عنه قد حفظ لنا ثروة تاريخية وجغرافية لا تقدر بثمن سلمت من أيدي العابثين بالتاريخ من المتأخرين من ذوي المصالح والأهواء.
قال ياقوت وهو يصف السمينة: (السُمَيْنَةُ: بلفظ تصغير سمنة كأنه قطعة من السمن، وهي أول منازل من النباج للقاصد إلى البصرة: وهو ماء لبني الهجيم فيها آبار عذبة وملحة بينهما رملة صعبة المسلك بها الزرق التي ذكرها ذو الرمة في شعره، قال الشيخ: فهل وجدت السمينة؟ قلنا: نعم، قال: أين هي؟ قلنا: بين النباج والينسوعة كالفضة البيضاء على الطريق، قال: ليس تلك السمينة، تلك زعق، والسمينة بينها وبين مغيب الشمس لا تبين أعناق الركاب تحت الرحال أحمر هي أم أصهب، فوجدت السمينة بعد ذلك حيث وصف). وبعدما انتهى ياقوت من وصف السمينة وتحديد موقعها وطبيعة أرضها أورد بعضاً مما قاله فيها مالك بن الريب والراعي من شعر.
ويعد الإمام أبو إسحاق الحربي صاحب كتاب (المناسك وأماكن الحج ومعالم الجزيرة) المتوفى سنة 285هـ، أقدم من كتب في هذا الطريق وقد سلكه بنفسه وذكر منازله من خلال المشاهدة وليس النقل عن غيره ومن أتى بعده اعتمد كثيراً على كتابه هذا.
وطريق حاج البصرة، يبدأ مساره من مدينة البصرة في العراق ويمر بعدة منازل (محطات رئيسة) ومعشيات (استراحات صغيرة) حتى يصل إلى الأسياح (النباج قديماً) المحطة الأولى له ومن ثم يتخذ الطريق مسارين. المسار الرئيس هو الذي يتجه رأساً إلى مكة ماراً بالجعلة فالصريف فالعسكرة فرامة، ويمر بعدة منازل ومعشيات إلى أن يصل إلى مكة، أما المسار الفرعي أو الثاني، فيتجه رأساً إلى المدينة عبر الأسياح (النباج) ثم قصيبا (قو) فأثال، فعيون الجواء (عيون بن عامر) إلى أن يصل إلى النقرة حيث يلتقي بحجاج أهل الكوفة أو ما سمي طريق الحج السلطاني والبعض يسميه طريق زبيدة، ثم إلى المدينة ماراً بعدة منازل ومعشيات. وقد حدده الإمام الحربي كما يلي: النباج، ثم بطن قو، ثم أثال، ثم عيون بن عامر، ثم الناجية، ثم الفوارة، ثم إلى النقرة حيث يلتقي بطريق حاج الكوفة.
وهناك طريق فرعي ثالث يتجه رأساً إلى المدينة المنورة، يسلكه حاج البصرة من أراد منهم المرور بالمدينة أولاً من غير أن يسلك الطريق الرئيس، وبيداء قبل أم عشر (ذات العشر) ويقطع وادي الأجردي (الينسوعة) ماراً بآبار البيصية (السمينة) ثم إلى بلدة قبة (قنة) وينحرف قليلاً إلى الشمال الغربي إلى المدرج (حومانة الدراج) ومنها إلى أبرق الضيان (أبرق العزاف) ثم يمضي إلى الحناكية (بطن نخل قديماً) وصولاً إلى المدينة المنورة. ولم يعد يسلك هذا الطريق أحد من الحجاج للمخاوف التي تكمن فيه كما قال الإمام أبو إسحاق الحربي.
ومحطات ومنازل طريق حاج البصرة الرئيس أو الأول الذي يبدأ من مدينة البصرة في العراق إلى مكة المكرمة رأساً، كما ذكرها الإمام أبو إسحاق الحربي هي:
المجانشة 8 أميال، ثم الحفير 31 ميلا، وهو أول المنازل ما يلي البصرة، ثم الرحيل 28 ميلاً، ثم الشجي 29 ميلاً، ثم الخرجاء (خرجا) 33 ميلاً، ثم الحفر (حفر الباطن) 27 ميلاً، ثم ماوية 32 ميلاً، ثم العشر أو ذات العشر (أم عشر) 29 ميلاً، ثم الينسوعة (بريكة الأجردي) 23 ميلاً، ثم السمينة (البيصية) 29 ميلاً، ثم النباج (الأسياح) 23 ميلاً، ثم الصريف 10 أميال، ثم العوسجة (العوسزية) 19 ميلاً، ثم القريتان (العيارية) 22 ميلاً، ثم رامة 24 ميلاً، ثم أمرة (أمرة بالفتح) 27 ميلاً، ثم طخفة 26 ميلاً، ثم ضرية 18 ميلاً، ثم جديلة 32 ميلاً، ثم فلجة 35 ميلاً، ثم الدثينة 26 ميلاً، ثم قبا 27 ميلاً، ثم مران 3 أميال، ثم الشبيكة 27 ميلاً، ثم وجرة 40 ميلاً (وفيها يحرم الناس) ثم ذات عرق 27 ميلاً، ثم البستان 24 ميلاً، ثم إلى مكة المكرمة 28 ميلاً.
وهو طريق محدد بأعلام كبيرة (عبارة عن رجوم من الحصا) لتحديد الطريق الصحيح للحجاج المسافة بين كل علم وآخر حوالي 1800 متر، وتسمى أميال الحاج، ولم يقتصر ضبط الطريق على هذا النحو، بل تم وضع علمين أصغر من تلك الإعلام الرئيسة كل علم يقابله ويحاذيه علم آخر يفصل بينهما حوالي 50 متراً، الغرض منهما ضبط سير الحجاج حتى لا ينحرفوا يميناً أو يساراً وبين كل علمين حوالي 400 متر ويمر الطريق بمحطات رئيسة (منازل) واستراحات صغيرة (معشيات) اختيرت بعناية وفي كل محطة مصدر للمياه.
ويبدأ طريق حاج البصرة دخوله في حدود السعودية عندما يصل إلى مدينة الرقعي التي كانت تسمى (الرقيعي) قديماً وفي الينسوعة والتي هي الآن (بريكة الأجردي) يكون الحاج قد وصل عرق المظهور (أميل الأمل قديماً) الواقع في نفود الأسياح، وعند السمينة (البيصية الآن) أي عروق البيصية يكون الحاج قد دخل في حدود منطقة الأسياح إلى الصريف الذي لم يتغير اسمه حتى الآن. وهو 27 منزلاً بطول 696 ميلاً، أي 1392 كيلومتراً.
ما قيل من الشعر في طريق البصرة
وهذه بعض من أرجوزة وهب بن جرير بن حازم الأزدي البصري (ت 206هـ) التي تصف طريق حاج البصرة ومنازله وهي 27 منزلاً ما بين منزل رئيس ومعشى صغير:
قال عند الاستعداد للرحيل: