| |
الحبر الأخضر لبيك اللّهم لبيك أ. د. عثمان بن صالح العامر
|
|
ربما ترحل الأحداث الموجعة أو حتى المفرحة من الذاكرة.. وقد تغادر فجأة تلك الكلمات المفيدة، بل وحتى الحروف المتقطعة الشفاه العاجزة عن الإفصاح عمّا في ذواتنا المنهكة من مشوار الحياة الطويل.. ربما تنهش نعمة النسيان ما احتوته قلوبنا من لحظات رائعة سطرت في الزمن الفائت من عمرنا الذي يمضي بنا إلى النهاية المحتومة.. ربما.. ربما.. ربما يكون كل ذلك، ولكن تبقى حيَّة في النفس حاضرة في الخاطر واقفة على طرف اللسان - خاصة في مثل هذه الأيام المباركة وعلى وجه الخصوص عند حجاج بيت الله الحرام من أي مكان هم وفي أي زمان عاشوا - تبقى تلك الكلمات وهاتك الذكريات التي كتب عنها المؤرّخون حين حديثهم ولو كان حديثاً عارضاً عن بيت الله الحرام.. ها هو إبراهيم عليه السلام استجابة لأمر الله يحمل زوجه وولده الصغير من مقر إقامتهم التي كانوا سعداء فيه يتجه بهما إلى جهة بالنسبة لهما غير معلومة، أما هو فقد جاءه أمر الرب سبحانه وتعالى له بأن يسكنهما بهذا الودي الذي وصف بأنه وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المحرم.. تتعلّق الأم هاجر بطرف ثوب زوجها إبراهيم علّه ألا يذهب ويتركها هي وولدها وحدهما في هذا الودي الموحش لا أنيس ولا حسيس ولك أن تتصوّر وداياً لا حياة فيه كيف ستكون السكنى والاستقرار؟.. تسأله زوجه المحبة الخائفة بعد أن أيست من الجواب.. آلله أمرك بذلك؟ فيقول عليه السلام: نعم.. * واستجابة لأمر الله وإيماناً بالله ترضى وتقتنع هاجر بالبقاء في هذا المكان الغريب وهي تردد بثقة المؤمنة ويقين المبتلى إذاً فلن يضيعنا الله أبداً، ويدير لهما الزوج الممتحن ظهره وهو يهم أن يعلو تلك الرابية متوجهاً بقلبه البشري الخافق الواجف إلى مولاه ومدبر أمره رب العالمين الرحمن الرحيم وهو يقول {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} «37» سورة إبراهيم. * واستجابة لأمر كذلك لم يتردد هذا النبي العظيم إبراهيم عليه السلام في التضحية بولده فلذة كبده حين جاءه الأمر الإلهي بذلك {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى...} «102» سورة الصافات. * واستجابة لذات الأمر يأتي الجواب من الابن البار الراضي بقضاء الله وقدره {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} «102» سورة الصافات. * واستجابة لأمر الله يرفع إبراهيم وابنه إسماعيل القواعد من البيت {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} «127-128» البقرة. لاحظ يرفع أي أن الأساس موجود قبل ذلك وقام إبراهيم يساعده ابنه إسماعيل برفع هذه القواعد استجابة لأمر الله. * واستجابة لأمر الله يؤذّن إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج إلى هذا البيت {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} «27» سورة الحج، لقد أسمع الله عزَّ وجلَّ مَن في الأصلاب هذا النداء الإبراهيمي الندي.. عليك النداء يا إبراهيم وعلينا التبليغ.. ويبلغنا مثل غيرنا نداء إبراهيم عليه السلام. * واستجابة لأمر الله يحج محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وآخر المرسلين يطوف في البيت ويسعى بين الصفا والمروة ويقف بعرفة ويبيت في مزدلفة ويرمي الجمار ويحلق ويتحلّل ويبيت في منى.. * واستجابة لأمر الله يقبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود ويقبّله اقتداءً به الصحابة رضوان الله عليهم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك). * واستجابة لأمر الله يحج المسلمون منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم وإلى قيام الساعة ويفعلون مثلما ما فعل عليه الصلاة والسلام حين حج.. نؤدي مناسكنا كما أداها استجابة لقوله عليه الصلاة والسلام (خذوا عني مناسككم) مع الميل إلى التيسير في الأداء استناداً إلى قوله عليه الصلاة والسلام إجابة لما ورد عليه من أسئلة حين النسك (افعل ولا حرج). * واستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى تتوافد هذه الأيام المباركة جموع الحجيج إلى مكة المكرمة وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية لله عزَّ وجلَّ (لبيك اللّهم لبيك.. لبيك لا شريك له لبيك).. حقاً إنها صفحات من التسليم المطلق لله والاستجابة الكاملة للرب سبحانه وتعالى منذ إسكان إبراهيم عليه السلام زوجه هاجر وولده إسماعيل هذا الوادي، وحتى اليوم الذي تتسابق فيه جموع المسلمين في أرض الله الواسعة للظفر بالسفر الميمون والرحلة الفردية لأداء مناسك حج بيت الله الحرام.. فهنيئاً للملبين نداء الله ويا سعادة المقبول منهم هذا العمل، إذ إنهم سيعودون من حجهم هذا كيوم ولدتهم أمهاتهم، مصداق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) و(الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، تقبّل الله من الحجيج حجهم ومن المضحين ضحاياهم، وجعل عيدنا سعيداً إنه قريب مجيب، وكل عام وأنتم بخير.
|
|
|
| |
|