| |
الأربعاء 18 محرم 1393هـ الموافق 21 فبراير 1973م - العدد (527) الأستاذ الدكتور شكري عياد يكتب هذه الدراسة عن: الرواية العربية المعاصرة وأزمة الضمير العربي.. (الحلقة الثانية)
|
|
ويمكننا أن نقول - على سبيل التقريب - أن العالم العربي إذ يتقدم نحو أواسط الخمسينيات يستقبل مرحلة جديدة في تطور تلك الأزمة، وهذه المرحلة الأخيرة - يبدو أننا نشهد قيمتها في الوقت الحاضر - هي التي نريد أن نتناولها بشيء من التفصيل في هذا المقال، لكننا نرى من الضروري قبل أن ننتقل إلى هذه المرحلة، أن نقف قليلاً عند شخصية كمال عبد الجواد في ثلاثية (بين القصرين) (1956 - 1957) لنجيب محفوظ، باعتبار أن كمال عبد الجواد، كبطل (الحي اللاتيني)، يقف على مشارف المرحلة الجديدة. إن إيمان كمال ثم إلحاده مرتبطان بحبه، ثم فشله في الحب، وكما أن ذكرى عايدة - حبه المثالي - تظل مضيئة في قلبه الذي كسرته حتى ليناجيها وقد سمع خبر موتها، (إني حزين يا عايدة لأني لم أحزن عليك كما ينبغي) فكذلك يظل قلبه متشبِّثاً بالإيمان وإن استبدل العلم بالدين، وهو يربط بين العلم والحضارة الأوروبية، ويفصل بين الحضارة الأوروبية والاستعمار ويحدث نفسه ألا تناقض بين إعجابه بسعد زغلول وإعجابه بكوبر نيكوس واستولد وماخ، فسعد زغلول لا يجاهد العلم الأوروبي، لكنه يجاهد لربط مصر المتأخرة بركب الإنسانية. وليس ثمة تناقض أيضاً بين الإيمان بالعلم الأوروبي أو الإنجليزي وبين كره إنجلتراً، فكره إنجلترا نوع من الدفاع عن النفس، والوطنية ليست إلا إنسانية محلية، إنه يحاول التوفيق بين كل هذه العناصر المتنافرة في إيمانه الجديد، لكنه لا يلبث أن يقول لنفسه: الحقيقة معشوق ليس دون المعشوق الآدمي دلالاً وتمنُّعاً ولعباً بالعقول وإثارة للشك والغيرة مع إغراء عنيف بالتملك والوصال، وهي كالمعشوق الأدمي، عرضة لأن تكون ذات وجوه وأهواء وتقلبات، ولا تخلو في كثير من الأحايين من مكر وخداع وقسوة وكبرياء).. وليست هذه حقيقة العلماء، لكنها حقيقة الصوفية وأهل الوجد، ومؤدى ذلك التناقض هو الشك في كل شيء حتى الشك نفسه: التصوف هروب، والإيمان السلبي بالعلم هروب، والشك نفسه هروب، ومحصل ذلك هو العجز، إذن فلا بد من عمل، ولا بد للعمل من إيمان، ولا يستكبر كمال الذي أشرف على الأربعين أن يتلقى من ابن أخته الشيوعي مبدأ وافق عليه شقيقه الأخ المسلم: مبدأ الثروة الأبدية: العمل الدائب على تحقيق إرادة الحياة ممثلة في تطورها نحو المثل الأعلى: إما أن تؤمن بأن مثل الناس حق فتلتزمها، وإما أن تؤمن بأنها باطل فتثور عليها. هذه هي الثورة الأبدية، هي نقيض ما انتهى إليه كمال من حيرة وشلل، وهي بشارة الجيل الجديد، والمخرج من أزمة الضمير العربي أمام التحدي الحضاري، لا جرم أنها كانت - في أشكالها المختلفة - موضوعاً خصباً للروائيين منذ أواسط الخمسينيات إلى اليوم.. فهذه فترة غليان في العالم العربي، فترة شهدت تعاظم حرب التحرير الجزائرية وانتصارها الأخير، واشتداد الخطر الإسرائيلي الذي دلَّت عليه حربان عدوانيتان، وبعث حركة المقاومة الفلسطينية في صورة أنضج وأقوى تنظيماً من أي وقت مضى، كما شهدت تجارب في الحكم لم تخل من تضحيات وآلام. سنتناول جوانب هذه الأزمة - أو الثورة - في الصفحات التالية من خلال أعمال روائية مختارة، وأساس هذا الاختيار أن تكون الأعمال التي نعالجها ممثلة لجميع الجوانب المهمة في هذه الأزمة - الثورة، وأن تكون على درجة من النضج الفني، لكننا لا نزعم أن هذه الأعمال - دون غيرها - هي التي تُعبِّر عن الأزمة التي نتحدث عنها، ولا أنها أجود الأعمال التي تُعبِّر عن هذه الأزمة، فقد يكون ثمة ما يساويها أو يفوقها جودة، فقد تختلف الأحكام في مثل هذه الموازنات، ولسنا نستبعد أن يكون قد ظهر في جزء من العالم العربي عمل روائي جيد لم يتيسر لنا الاطلاع عليه، ولو اطلعنا عليه في حينه لكان حريا أن يضيف جديداً إلى هذا البحث، كذلك نحن لا نزعم أن هذه الأزمة - بجوانبها المختلفة - تستوعب جميع الموضوعات الروائية التي عولجت فعلاً، أو التي تمكن معالجتها.. فثمة موضوعات أخرى الصق بالتطور الداخلي للمجتمع، أو أقرب إلى المشكلات الإنسانية التي لا تتأثر باللحظة الحضارية كبير تأثر، على أننا نستبعد أن يخلو موضوع روائي خلواً تاماً من جميع جوانب هذه الأزمة، والحق أنها جوانب متنوعة ومتشابكة، بحيث لا نستطيع أن نعزل فيها جانبا عن الجوانب الأخرى إلا على سبيل التجريد العلمي، كما أننا لا نستطيع أن نستقصي جميع الصور التي يمكن أن تتفرع عن هذه الجوانب، وإذا راعينا هذا كله فإننا نستطيع أن نجملها في خمسة، نعتمد في توضيح كل منها على عمل أو أعمال قليلة أقرب تمثيلاً لها: - الجانب الأول: البحث عن الذات. - الجانب الثاني: التحوُّل من الماضي إلى المستقبل. - الجانب الثالث: الحضور الفردي. - الجانب الرابع: الموقف النقدي. - الجانب الخامس: التساؤل الميتا فيزيقي. * المحرر : وسنتعرَّض لكل جانب من هذه الجوانب مستقلاً.. كلما سمحت الظروف مع الاعتذار للأستاذ الدكتور وللقراء.
|
|
|
| |
|