| |
العجوز التي حاكت حلماً خجولا أمين صالح
|
|
هذا هو البيت إذن: بسيط، متواضع، يميل إلى التقشف لا البذخ، مكون من طابقين، من الطابق الثاني تبرز شرفة تحط على أطرافها بلابل لا تكف عن الزقزقة والتقافز قرب أصص تزهو بأزهارها الندية، أما النوافذ فمفتوحة على فضاء يحصي عدد السحب التي تمر في حقله الفسيح. لا يوحي بالفقر ولا بالثراء هذا البيت.. إنما ينم عن جمال هادئ وذوق مرهف في التكوين المعماري، وفي انتقاء الألوان واستغلال المساحات.. ثمة من هندس الفراغات بيقين الذاهب إلى الراحة لا بروح الراغب في الإبصار. الباب المصبوغ بنثار طل عابث كان مفتوحاً قليلاً مثل نهار في أوله ربما لهجسه بالزيارة المرتقبة. دفعته مثلما فعلت قبلي مئات الأيدي بحنان لكن كان له صرير يشبه الأنين. أدخل ومن حولي يحتشد السديم ويتكثف. ثمة بيوت تشعرك بالألفة بالحميمية حتى قبل أن تطأ عتباتها وتستكشف جغرافيتها وتلج حجراتها. أريج منعش وآسر ينبعث من الزوايا والممرات أطياب وبخور، ماء ورد، كذلك أشم نكهة خبز طري ورائحة فاكهة. ويهديني الدفء إلى غرفة بسيطة لكن مدللة.. إذ نالت من العناية والنظافة حصة كبيرة، وها هي العجوز المريضة بداء يصعب الشفاء منه راقدة على سريرها المضاء بسبعين عاماً أو أكثر قليلاً، سبعين صيفاً أو أكثر قليلاً اجتازتها سيراً على الأقدام، حافية وضاحكة في سهل شاسع رأت فيه المسرة والأسى، الهدوء والصخب.. رأت كل الأضداد والنقائض تسير جنباً إلى جنب نحو النبع الأعظم. وها هي الآن نائمة في سكينة.. مبللة بالألق، لا تناوشها محنة ولا يطالها ألم.. وحيدة مع وسن وديع ينزهها متشابكي الأيدي في مملكته الرحبة حيث الغرابة مألوفة ولا حضور لما هو مخيف.. وربما تعكف هناك على حياكة حلم خجول لا أحد غيرها يعرف صوره ورموزه. أدنو منها، أطل على وجهها الذي لم تستطع التجاعيد أن تطمس ملاحته ورقة بشرته ولونه الأبيض المائل إلى التورد. لا بد أنها كانت في ما مضى جميلة ومحط اهتمام وولع لكنها اختارت الأنسب والأكثر قرباً إلى قلبها ومعه كونت العائلة وهي الآن نائمة بلا ندم على فراش عطر تقاسم معها البرودة والدفء، الضحك والدمع، السقم والعافية. وكأنها شعرت بوجودي فتفلت يدها من يد الوسن وتفتح عينيها وتمعن النظر إليّ في هدوء شديد.. لم ترتعش أهدابها توجساً.. بل يبدو أنها لم تتفاجأ على الإطلاق إذ يفتر ثغرها عن ابتسامة عذبة وتهمس: - جئت أخيراً؟ أهمس بدوري: في موعدي.. يا مريم. - كنت أنتظرك قالتها وإحساس غريب بالطمأنينة يراودها.. ومثل طفلة تتودد في دلال، تبادر إلى القول: - أمهلني قليلاً لأسرد لك حلمي.. هل تحب أن تصغي إلى حلم امرأة عجوز؟ أومئ برأسي موافقاً وأنا مأخوذ بالومض الذي انبجس من جبينها وانداح ليضرجها ببراءة لا توصف وعذوبة لا حد لها. تنظر إليّ بامتنان وتطلق ضحكة خفيفة، حلوة وخجولة، ثم تضيف: - لا أبدو هرمة في أحلامي.. نعم أرى نفسي شابة وجميلة، كما كنت قبل سنوات طويلة، ودوماً أرقص في أحلامي، هل تعرف ذلك؟ حسناً لن أطيل عليك كنت أتنزه مع غزال صادفته في الساحة العامة وقد تلطخ عنقه بطلاء أحمر يشبه دم طفل، كنا نتمشى وسط أشجار رمان لا تحصى، حاملة معي مظلة ذلك لأنه كان يوماً غائماً، غيوم كثيرة تلهو عابثة مع بعضها وتتقاذف بالأنداء التي تتساقط وتتناثر علينا لكنها لم تمطر. طفقت أتأمل الغيوم في انبهار وما انتبهت إلى الأرض التي رحت ارتفع عنها رويداً رويداً بخفة ورشاقة لم اختبرهما من قبل. كنت أحلق على مهل حتى مرت قريبة من الغيوم، عندئذ فقط اكتشفت أنني ارتقيت أدراج الهواء دون أن أشعر واعترتني غبطة لا نظير لها. ها أنا أرقص وألهو مع غيوم متخمة بالماء.
|
|
|
| |
|