| |
دفق قلم نافذة للترويح عبدالرحمن صالح العشماوي
|
|
تروي لنا كتب الأدب المشهورة مثل الكامل في اللغة والأدب للمبرد، والبيان والتَّبيين للجاحظ، والأمالي لأبي علي القالي، وغيرها من كتب أدبنا العربي القيِّمة طرائف لا يملك من يقرؤها إلا أن يروِّح عن نفسه ترويحاً يدعوه إلى الضحك وإن كان منفرداً. ومن أطرف ما يُروى فيها أخبار أصحاب (العيِّ)، أي ضعف القدرة على الكلام النافع المفيد فيأتون بالأعاجيب. وحتى أقرِّب الصورة للقارئ الكريم، أنقل هذا الموقف الذي حصل لي مع شاب يميل إلى التفصُّح على غير فصاحة، فقد فاجأني بالزيارة ذات يوم شاب كأنه يعيش في العصر الجاهلي أو بعده بقليل من حيث الاستخدام اللُّغوي، وبدأني بقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم صل وسلِّم على عبدك ورسولك محمَّد، اللهم إني لا أسلِّم إلا بالسلام: السلام عليك يا أبا أسامة ورحمة الله وبركاته، وقابلته بضحك لم أستطع مقاومته، ورددت عليه السلام وقلت له تفضَّل: فقال: الفضل من الله وبالله وعلى الله، فهو المتفضِّل علينا جميعاً، دام فضلك يا دكتور، وجلس، وبالرغم من أنَّه قد أثقل عليَّ إلا أنه قد روَّح عني، وكنت أظنّه في أوَّل الأمر يمزح فإذا به من أبعد الناس عن المُزاح، وحينما ودَّعته دعوت لمن يتعاملون معه من الأهل والزوجة والأصحاب بالصبر والاحتساب، والعون على الابتلاء. ومثل هذا الأنموذج كثير في البشر قديماً وحديثاً، وقد تفرد الجاحظ برصد أخبار هؤلاء بصورة كبيرة، وروى عنهم من الطرائف ما يروِّح عن القلوب المتعبة، وقد روى غيره طرائف مشابهة، ولكنَّ الجاحظ تجاوزهم بالإكثار، وحسن الاختيار. كان هنالك رجل اسمه عَنَاق، له طرائف من هذا النوع، فقد قال ذات يوم: لقد كان عيَّاشُ بن القاسم وثمامة بن أشرس حيٌّ، يعظمني تعظيماً ليس في الدنيا مثله، وقيل له: بماذا تزعم أن أبا علي الأسواري أفضل من سلام أبي المنذر، فقال: لأنه لما مات سلام أبو المنذر ذهب أبو علي في جنازته، ولما مات أبو علي لم يذهب سلام في جنازته. وقال لرجل ذات يوم: فيك عشر خصال من الشر، فذعر الرجل وقال: ما هي ويحك، فقال: أما الثانية فكذا، وأما الرابعة فكذا، وأما العاشرة فكذا، ثم انصرف. ودخل رجل على قوم يعزيهم فقال: آجركم الله وأعظم أجركم، وأجركم أعظم. فقيل له: ما هذا التكرار المخل، فقال: لقد سمعت أحد البلغاء يقول: بارك الله لكم، وبارك عليكم، وبارك فيكم، فقالوا له: ويلك إن قولك لا يشبه قول الحكيم. وكان أبو إدريس السمان من هؤلاء المتفصحين، فقد دخل على قوم وقال: لا حيا الله وجوهكم إلا بالسلام، ولا بيتكم إلا بالخير، فأضحكهم. وكان ابن أبي علقمة مشهوراً بذلك، وكان الصبيان يتجمعون عليه يتندرون به، وحدث أن تجمهر عليه الصبيان ذات يوم فأزعجوه، فرأى رجلاً قادماً له ضفيرتان من شعره ظاهرتان، فصاح به ابن أبي علقمة: (ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض) وأشار إلى الصبيان. وكان لأشعب عجائب في هذا الباب، فقد قيل له إن لك قدرة عجيبة على الحفظ، فأنت تروي القصص والأشعار، فلماذا لا تروي الحديث؟ قال: إني أروي منه حديثاً لم تسمعوا بمثله، قالوا: هاته، قال: حدثني فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خصلتان من كانتا فيه دخل الجنة، قالوا: يا له من حديث عظيم وما هما يا أشعب، قال: نسي الراوي واحدة ونسيت الأخرى، فضحك القوم منه، وخطب أحدهم ذات يوم، فقال للناس: إني أعظكم وأحذركم، وما أنا إلا كما قال العبد الصالح (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). فصاح به الناس: استغفر الله يا رجل فإن هذا القول لفرعون كما ورد في القرآن فكيف تصفه بالعبد الصالح، فسكت ولم يفهم قولهم. وخطب وكيع بن أبي سُود بخرسان فقال: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أشهر، فصاح به الناس: ويحك إنها ستة أيام، فقال: أما والله لقد قلتها وإني لأراها في نفسي قليلة، فأنزلوه عن المنبر وأخرجوه. وكان قبيصة رجلاً من هذا الصنف، فقد رأى الجراد يغطي الأفق، فقال للناس: لا تخافوا منه، فإن مُعظمه لميِّت. أما أبو السَّرايا فكان يأتي بالأعاجيب، فقد تغدَّى عند سليمان بن عبدالملك، وأمامه جَدْيٌ مطبوخ فقال له سليمان: كل من كُلْيَةِ الجدي، فإنها تزيد في الدّماغ، فقال أبو السرايا: لو كان هذا كما تقول لكان رأسه مثل رأس البَغْل، فضحك سليمان طويلاً من قوله. ومرض رجل من هذا الصنف من الناس فقيل له: ماذا تشتهي؟ قال: أشتهي رأسَ كبشين، فقيل: هذا لا يكون، فقال: إذن أشتهي رأسَيْ كَبْش. فضحك القوم. وأقول: ما أجمل أن نربط بين أجيالنا وبين تراثهم حتى تظل صلتهم بسياقهم التاريخي قويَّةً، فإن لذلك أثراً تربوياً لا يخفى. إشارة قال رجل لرجل: بكم تبيع الشاة؟ قال: أخذتها بستة دراهم، وهي خير من سبعة، وقد أعطوني بها ثمانية، فإن كانت حاجتك بتسعة، فهي لك بعشرة. فتركه وذهب.
www.awfaz.com
|
|
|
| |
|