لقد عرفت صاحب السمو الأمير عبد الله بن فيصل بن فرحان آل سعود - رحمه الله تعالى - عن قرب .. فقد عرفته، وعرفت فيه رجلاً, متواضعاً قوي الشخصية, ورعاً عطوفاً, صامتاً بليغاً, عفيف اللسان, شيخاً بصيراً, كريماً لطيفاً, مؤرِّخاً دقيقاً, فإذا تحدّث تحدّث حديث الأتقياء على نهج الصالحين. فقد نشأ يتيماً لم ير والده، وكان باراً بوالدته الأميرة الصالحة موضي بنت ناصر بن فرحان آل سعود, وصولاً لرحمه حتى مع المرض, وهو رجل يتميّز بالهدوء والسكينة وضبط أعصابه، ولم أره يوماً منفعلاً قط. محب للتاريخ وسيرة الملك عبد العزيز كنت أتداول الحديث معه بخصوصية في كثير من المجالات لا سيما تاريخ هذا الوطن الكبير. ومما رأيت عند الحديث والبحث معه في تاريخ تأسيس هذا الوطن الذي شرفه الله بأنّ كان أحد الرجالات الذي ساهموا فيه تحت مظلّة الرمز الكبير عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل - طيَّب الله ثراه - إذا كان المجال لا يخصهُ شخصياً فإنه يتحدث ويشيد بأفعال الآخرين وما قاموا به لوطنهم المملكة العربية السعودية بوجه عام وكان مُلمّاً بهذا التاريخ، بحراً من العلم الشرعي. أمّا حين يكون الحديث عن نفسه وما قام به فتجده لا يتحدث، لا يحب أن يشيد بنفسه ويعتدّ بها .. وكان دائماً ما يردد عند إثارة حديث عن شخصه أو ما قام به جملة (الله المستعان). ذِكْر الملك عبد العزيز يثير شجونه التاريخية ومع هذا لم أيأس من محاولة استنطاقه ومعرفة جوانب تاريخية منه، فكنت أجعل المدخل لإثارته في الحديث التاريخي وقصص التأسيس أن أشيد بالملك عبد العزيز - طيَّب الله ثراه - وأتذكّر أنِّي ذات مرة قلت له: يا أبا فيصل أنتم تشيرون إلى حال الجزيرة قبل توحيد الملك عبد العزيز - طيّب الله ثراه - لهذا الوطن، فيفترض أن يكون في كل بيت بالمملكة العربية السعودية أضحية للملك عبد العزيز - رحمهُ الله - شكراً وعرفاناً لما نحن فيه من أمن ورغد ورخاء، فيرد عليَّ - رحمهُ الله - متبسِّماً فيقول: يا ولدي كان الملك عبد العزيز خيراً على العباد - رحمهُ الله - ثم بعد ذلك يتفاعل ويسرد بعض الروايات لوقعات تاريخية وحوادث مهمة في تاريخ الوطن شارك فيها، مثل حرب الرغامة، وكان مشاركاً بها عام 1343هـ وحرب الريث عام 1374هـ وهي تاريخياً تُعرف (بحرب القهر)، وسبب هذه التسمية أن جبل الريث كما حدثني هو - رحمهُ الله - معروف بصعوبة صعوده وتسلُّقه بشكل يقهر (يصعب) على الرجال الأشداء. وقعات لتأسيس الوطن شارك فيها وعن هذه الحادثة الأخيرة، يقول - رحمهُ الله - وصلنا جازان عند ابن ماضي وقمنا بعد دراسة الموقع من قِبل العارفين وتم تجهيز الجنود, ورأيت أنّ حمل السلاح والذخيرة يكون على حمير وبغال حتى نستطيع الاجتياز والدخول إلى الجبل الذي كان العصاة الذين تمرّدوا وخرجوا على الدولة يتمركزون به, وبعد مناوشات عديدة تم القضاء على هذا التمرُّد, وأسرنا بفضل الله ورحمته قائدهم، وكان مما قاله لي بعد فتح الريث والله يا عبد الله (المقصود به سمو الأمير عبد الله بن فيصل الفرحان آل سعود - رحمه الله - لم نسمع كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) إلاّ عندما جئتم أنتم. من مواقفه الطيبة وقد حدثني الإخوة أنّ من حرص سموه - رحمه الله - على صلاة الجماعة أنّ عمالاً كانوا يعملون عنده بمزرعة (مشيرفة) بالخرج عملاً مقطوعاً تركوا صلاة الجماعة بالمسجد لأنّهم في آخر المزرعة ولا يستطيعون الذهاب إلى المسجد، فقال لهم: سأزيد لكم المبلغ وصلّوا معنا بالمسجد جماعةًًً. ومن القصص الدالة على ورعه وتحرِّيه في جانب المال قصة سموه - رحمهُ الله - مع ابن حلتيت وهو في طريقة إلى جبل الريث لتأديب العصاة عام 1374هـ، حيث احتاج الجيش إلى بعض المؤن, فطلب من ابن حلتيت أن يجهز ذلك فدفع بمبلغ وقدرهُ خمسون ريالاً عربياً, وبعد سنين طويلة لما جاء الحديث عن ابن حلتيت أمر سموه - رحمه الله - مدير مكتبه الخاص أن يسأل شركة الراجحي عن قيمة الخمسين ريالاً عربياً فقالوا حوالي ثمانمائة ريال أو أكثر فأمره بتحويلها لابن حلتيت عن طريق الشيخ عبد الله بن زاهر رئيس محكمة ظهران الجنوب. رحمك الله يا أبا فيصل كم كنت رجلاً قوياً صبوراً, بعيد النظر, ذا فراسةٍ بالرجال .. حكيماً في أمورك كلها.
(*) رئيس مركز السلمية - باحث في تاريخ الدولة السعودية.
|