* من الرجال من تصنعهم الأزمنة بأحداثها وتقلباتها، وتصقلهم التجارب بمختلف أشكالها وأطوارها، وهذا النمط منهم تتشكل شخصيته في الغالب من أرضيات متنافرة، وأجواء متناقضة. والبشر يتفقون على مسمى الرجولة من حيث الخِلقة، لكنهم يتباينون بالتمثل في أخلاقياتها، ولو لم يكن هذا التباين لما كان هناك فروق فردية يتمايزون بها، ولما علا شأن بعضهم على بعض، وفضلت طبقة على أخرى. لكن هذا الاختلاف، هل للتربية شأن فيه أم لا؟. هذا ما سيكون عنه محور الحديث بعد أن استوقفتني أبيات للشاعر ( محمود سامي البارودي)، راق لي معناها أكثر من مبناها . يقول وقد شطّ به الزمن، واكتوى بصروف الأيام:
إذا المرءُ لم ينهض بما فيه مجدهُ |
قضى وهو كلٌّ في خدور العواتقِ |
وأيُّ حياة لا مريءٍ إن تنكرت |
له الحالُ لم يعقد سيور المناطقِ |
وتتكالب عليه النوائب، وتحيق به المكائد خارج وطنه، فيقول:
نفى النومَ عن عينيه نفسٌ أبيّةٌ |
لها بين أطراف الأسنة مطلبُ |
ومن تكن العلياءُ همةَ نفسهِ |
فكل الذي يلقاهُ فيها محبّبُ |
* أجمل الشعر وأكثره وقعاً في النفس ما كان حاضراً في ذاكرتك حين تطلبه لموقفٍ أو لمواقف، أو تنشده لمشهدٍ أو لمشاهد سرتك أو ساءتك. وبقدر ذلك التأثر يكون التأثير والتفاعل، وبقدر هذا الحضور التلقائي يكون خلود الأدب وذيوعه.
* أجزم أن (البارودي) ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لكن هذا لا يروي الغليل، فالطموحات كبيرة، والآمال عريضة، مما جعله لا يستسلم للملذات، ولا يستجيب للرغائب، إذ تألم من الراحة أكثر من تألمه من التعب، وعانى من الفراغ في دواخل النفس أكثر من معاناة أشباهه من الرجال.
* سير النوادر من الرجال سواء كانت شعرية أو نثرية جديرة بالتأمل والتحليل والدراسة، وبخاصة في زمن جديب من المثال، فقير من النماذج. حياة (البارودي) تساق لظروف معينة وزمن معين، ولطبقة معينة قد لا تهم الكثير ولا تناسبهم، لكن نحن دائماً نحاول أن نقتبس المراحل التي تشكل منعطفاً في حياة الرجال، لكي تكون نبراساً لنا في تربية الأجيال، بعد غربلة صحيحها من زائفها . كما أسلفت أكثر ما نعانيه غياب النموج والقدوة من جهة، ونظرتنا المغلوطة في طرائق وأساليب النشأة من جهة أخرى. فبعضنا لم يدرك كل الإدراك سبل النجاح السليمة، وهو يتعامل مع من حوله قريباً أو بعيداً. لقد خاض (المنفلوطي) في هذه القضية، حين سئل عنها ليقول: (أحببت في ذلك (النشء) أن يمر بجميع الطبقات، ويخالط جميع الناس، ويذوق مرارة العيش، ويشاهد بؤس البؤساء وشقاء الأشقياء، ويسمع أنات المتأملين وزفرات المتوجعين ...أحببت فيه أن يصارع العيش ويغالبه، ويجرب الحياة ويختبرها.. يعثر مرة وينهض أخرى، يخطيء حيناً ويصيب أحياناً.. نعم، قلما أن يُنتج الإنسان إلا بسائق من الضرورة، ودافع من الحاجة.. صراع الفرد مع الحياة هو الينبوع الحقيقي الذي تتفجر من جميع العواطف، وتتشكل منه أسمى القيم وأنبل الفضائل . متى يدرك الناشئ أن حياة السعادة أو الشقاء حين يطويها لا تكون في مخيلته إلا كومضة من وميض البرق عند ذلك لا يأسى على فائت، ولا يقلق لمستقبل. حياة الأجيال جزء من رسالتنا - معشر المربين - فهل وعيناها، كي تقر الأعين، وتنشرح النفوس.
|