| |
أغلى النخيل مالك ناصر درار
|
|
مدرسة النخلة من أهم المدارس التي تعلم منها إنسان هذه الأرض في الزمن الذي غاب فيه علم التعلم وسكنت الأمية.. علمته النخلة آنذاك درس الصبر، كيف يعيش ويكافح ويصبر على الظمأ والجوع والفقر ويحلم ويكبر. كيف يكون عالياً مثلها، يترفع، يكون شامخاً عن كل الدنايا، أعلى من الصغائر. زرعت فيه أبجدية العطاء والخير، ومع الجميع تجود من غير ثمن منتظر. أن يكون كالنخيل لا تنتظر أن يأتيها ماء الأرض، رب السماء يسقيها ويكفيها القليل، وإن كل حياتها بذل وسخاء، وكذلك عندما تموت لا تترك إلا المنفعة، كل أوطارها وأطرافها مفيدة. وعلمت هذا الإنسان ضرورة أن تكون جذوره ثابتة في الأرض كي لا يهتز ولا تقتلعه الرياح، يصعد وينحو يناطح السحب واثقاً أن هناك من يحميه من الزلازل والزوابع. لهذا استحق المعلم الأمين أن تكون منزلته في قلب هذا الإنسان، همه وحبه لها فرض عليه أن يغرسها في كل أرضه كأنه يغرس بها الحب والوفاء، أنها قلبه. راعي النخل لا يشعر بلظى الأرض هذه الأيام وهي تشتعل رمضاء وسخونة، لا يهتم بمؤشر الحرارة الذي يقفز ولا يتحرك إلا للخط الأحمر نحو نقطة الخطر، يستقبل الصيف الجاف جداً بتفاؤل ورضا، كأنه ينتظر أن يحمل في جانب منه الرحمة إذا لم يسرع القيظ ويأتي لهيبه مبكراً، فإن راعي النخل يصيبه القلق ويحمل فيه الخوف ويتعب من بقايا برد الشتاء. لماذا ذلك؟ إذا تأخر لفح السهام، تأزمت النخلة، عن طلعها وجودة نبتها تتفاعل مع شدة الحر، كلما زادت رمضاء الأرض وأصبحت نسمات الفجر ساخنة، شعرت النخلة بالراحة، نشرت رائحة طلعها وأخرجت مكنونها بسرعة، أمسكت وتفاعلت مع ذرات اللقاح، وسعادة الزراع عندما ينظر لها وقد اشتعى عذقها وتفرق، واخضرت أطرافه وتكورت حباته. تلك هي لحظة الفرح عنده، لا تتم إلا في سهام القيظ عندما تتألق النخلة في موسمها، ولحظة زعل راعي النخل تأتي عندما تهمل هذه الرفيقة، إنه لا يرضى لها بما يشينها أو ينال منها. يخاف غضب هذه الصاحبة المقدسة، يحزن عليها إذا ماتت ويغضب لها إذا فقدت مكانتها في الأرض وجهل أصحابها مراحل حياتها ولم يكرموها في موسم نباتها أو حصادها، هذا حال راعي النخيل معها في كل بقعة تزرع فيه هذه الشجرة. ما حال راعي النخيل هذا، إذا كان كل ما يملكه نخلة يتيمة، كيف سيكون حبه لها، وأين مكانها فيه؟ هذه واقعة من هونج كونج لا تزال وكالات الأنباء تنقل تفاصيلها ومستجداتها، فقصة النخلة تحولت إلى أزمة وإلى قضية إنسانية. فالسيدة العجوز (مايوك) أحضر لها زوجها في السنوات الأولى من العام 1950 ثماني فسلات لشجرة غريبة على منطقتهم، اسم الشجرة نخلة، أما المكان فمن مكة المكرمة، هدية غالية فيها رائحة المكان المقدس، وحدث أن ماتت الفسلات السبع وعاشت واحدة، وفي هونج كونج كما يقول الخبر لا توجد إلا نخلتان إحداهما التي هي الأشهر والأكبر تملكها السيدة مايوك. تعلقت هذه العجوز بالشجرة المباركة التي أخذت تكبر، وتذكرها دائماً بالبلد الطيب وبالإسلام الذي آمنت به وحملته في قلبها، وأيضاً بذكرى زوجها الذي رحل وترك لها هذا التذكار الخالد. حكومة البلد لم تترك هذه العجوز في بيتها مع نخلتها يؤنس كل منهما الآخر، وقررت أن تقتلع الشجرة، أما أن تنقل إلى حديقة عامة أو أن تموت، لا يهم، المهم أن تبتعد عن المكان الذي خطط لقيام شارع جديد. المهندسون هناك رفضوا فكرة تحريك الطريق قليلاً لصالح شجرة عمرها خمسون عاماً، والعجوز تجاهد وتكافح ولا ترضى أن تمس الحكومة خوصة من أوراق شجرتها. بكت كثيراً وأرسلت رسائل عديدة للسلطات والمنظمات المختلفة، واستمرت في معركة عمرها اليوم 29 عاماً، كل ذلك من أجل نخلة. صبرت الحكومة في السنوات الماضية أثناء الحكم البريطاني على شجرة العجوز، أما اليوم فالسلطة الصينية نفد حلمها وتصر على قطع النخلة. السعودية حاولت أن تتدخل لإنقاذ الشجرة، متحملة تكلفة اقتلاعها وإعادة زرعها في مكان آخر، وأنها ستهدي السيدة الوفية ثلاث شتلات جديدة ومن أرض مكة. مايوك تقول: إن حياتها ستتوقف في اللحظة التي ستقطع فيها جذور نخلتها ستعيش معها وستموت أيضاً معها.. حب غير عادي.. إنها النخلة، ساحر ملهم، ما أعظم سره.
|
|
|
| |
|