| |
لما هو آتً متاحات السطو...!! خيرية إبراهيم السقاف
|
|
تبهرني محاولات الناشئات في الكتابة الأدبية إذ أجد أن حظهن أوفر من حظنا حين كنا في ثغر البدء نصطلي فاقة الكتب ونماذج القدوة ومناهل الري... كنا كمن يحمل على أصابعه يحوِّلها لمعاول تحفر وتحفر حتى نشأنا وقد تهذَّبت أصابعنا وتشذَّبت أظافرنا وأدركنا قيمة الرهق وثمنا جهد الأرق.. لكنهن ينشأن ومصادرهن ثرة تتكاثف وتتقاطر وتجري بين عيونهن جري السيل، وتصب أمامهن صبيب الشلالات.. حتى إنني كثيرا ما توقفت بين يدي حروفهن أستعيد جملة هنا وفكرة هناك وفقرة كانت ذات يوم قد خرجت من بين سطوري.. وكثيرا ما بادرتني إحداهن بقولها: (تتلمذت على حروفك...) وكثيرات قلن لي حفظن عن ظهر غيب كلماتك... وهذه التلمذة تذكرني بما كان يطلقه بعضهم حين كنت في عهد النشأة على كثير من الكتاب بأن هذا (منفلوطي) وذلك (طحسيني) وثالث (عقادي) ورابع (رافعي) وخامس (زيَّاتي) ومن كان يشبه زكي مبارك فقد كان يمثل المثقف الشمولي لأن مصادر زكي مبارك العلمية تعددت فقد كان يطلق عليه لقب الدكاترة.. في حين لم تكن الألقاب العلمية هي واسطة العقد ولا مبتدأ النجد.. لكن هناك فارق بون بين التلمذة قديما في أجيال اللهاث وراء المعرفة والإيغال في محيطاتها والعب منها وبين التلمذة في عصر الشبكة العنكبوتية والتعلم السريع والثقافة الاستهلاكية... وعلى مقاعد الدرس الجامعي كنت كلما سألتهن عن أسماء الأعلام من عصبة الكتاب والمبدعين العرب لا أجدهن على يقين إن لم يكن أصلا مفرغات من الخبر... وأعود إلى ثقافة الضغط على روابط مؤشرات البحث السريع التي تجعل الجاهل ملما بالكثير في لحظات وبين ثقافة الراكض على جمر للحصول على كتاب أو مجلة أو الجلوس إلى مفكر تفصل بينه وبينه مئات بل ألوف الكيلوات والبحور... ومع ذلك تظل تبهرني محاولاتهن ليس لأنهن على ثقافة أو اطلاع إذ اكتشفت ولا أزال أدهش من فراغ حصيلتهن من أبجديات الثقافة في مناحي الفكر والعلم والإبداع لكنني أدهش لأساليب كثيرات منهن وليس جميعهن وهي متماسكة جميلة محلقة.. حتى وإن كنت في كثير أجدهن متشابهات.. حتى جاءتني إحداهن بجملة من أوراق محبرة فيها العديد من الصفحات وقد زخرفتها ولونتها وضمنتها في إضبارة جميلة تغري المبدعين للكتابة أو الرسم.. فأفرغت نفسي لها ذات أمسية.. جلست لها صافية الذهن بيدي قلم الرصاص.. شئت أن أستبدله بقلمي الآخر لأسجل لها كلمات إعجابي وانبهاري وأنا ألتهمها... فلئن كانت هذه بداياتها فإن المستقبل سيكشف عن قلم لا بد سيكون له حرفه... وتيسر لي أن أستعيد كيف كانت كلمة الثناء تدفع بنا مئات الأميال في مضمار ركضنا، وكيف كانت تلبسنا أجمل حلل الزهو.. وتوقد فينا محطات من وقود الطموح... لكن فجأة تذكرت أن هناك ما مر بي شبيها بالذي تقول... ويا لهول ما أفزعتني هذه الوسائل التي أتاحت لهذا الجيل فرص الأخذ اليسير وهونت عليهم سبل السطو الحاذق ومكنتهم من أن يقفوا في النور لينافحوا عما كتبوا دون قدرة لأحد أن ينكر عليهم... فجملة من هنا وأخرى من هناك وفقرة من هذا الكتاب أو المقال وأخرى من غيره وما على مؤشر الحاسوب إلا التحرك السريع للقص واللصق والتركيب الجديد المبهر من خليط مما كتب غيرهم.. حتى أنك تقول: هذا لي لكنني لست من كتبه... ذهبت إليها أهاتفها: بنيتي، جميل صنيعك لكنه لا يحقق لك رضاءك الشخصي عن ذاتك سيأتي اليوم الذي تواجهين نفسك وربما لن تكوني قادرة على الغفران لها... قالت: لماذا؟ اضطررت أن أقول لها بما حدثني به حدسي وشعوري: لن ينفعك الذكاء في الأخذ من الآخرين، ربما يمكنك التقليد في الأساليب لكن ليس حد الأخذ بذكاء... ولشد ما كانت دهشتي تزداد حين أجهشت في البكاء وهي تقول: كيف تتذكرين كل الذي تكتبين أنت وغيرك؟ قلت لها: لا أتذكر ما أكتب لكنني أعرف حرفي كما تعرفين اسمك... يشاركك في الاسم عشرات لكن لا يشاركك في الوسم أحد... لم تنطفئ دهشتي ولا فتر انبهاري بل قلت لها: سأوقع لك بالموافقة فيما يخصني... وقد سبق أن وهبت صغيرتي ما أكتب للجميع وكتبت بأن ما يؤخذ منه سرقة مباحة لمن يشاء، لكنني سأنتظرك تكتبين ذاتك.. بعيدا عن مظلة كتابات غيرك... أعادتني للانبهار بجيل لم يعد يتأثر بل يأخذ بسهولة لأنه لم يحل أصابعه لمعاول ولا يعرف مشارف البدايات فكل شيء من حوله يجعله هناك فوق قمة ليس لها سفح ولا طريقها متعثر بحجارة... الطريف في الأمر فقط أنني رثيت على جيلي، ثم كان في صدري سؤال: من سيمنح ما نكتب براءة الخلط في ضوء هذه المتاحات وغياب الوازع في دخيلة الأجيال؟...
|
|
|
| |
|