| |
تجربتي الثقافية وتحوُّلاتها ..! 4-4 د. حسن بن فهد الهويمل
|
|
ولأنّ التحوُّلات الفكرية سمة العصر، فإنّ من المفيد تقصِّي ذلك ما أمكن، أو الإشارة إليه، وكافة التحوُّلات ذات ارتباط وثيق بالتقلُّبات السياسية، والتحوُّلات تراوح بين السلب والإيجاب، وكم هم الفرق بينها وبين (التقليعات)، التي مُني بها المشهد الثقافي العربي، وأيّ (تجربة ثقافية) ليست بمعزل عن تقلُّبات الطقس، والتحفُّظ أو المراجعة قد تخففان من فداحة التأثير. ولقد أشرت من قبل إلى لونين من المقروء المكوِّن والمسلي، وكلتا القراءتين: قراءة التسلية، وقراءة الفكر المنحرف دون تحصُّن، تعودان بالضرر على القارئ المبتدئ، فقراءة التسلية إضاعة للجهد والوقت والمال، وقراءة الأفكار المنحرفة ضلال مبين للفكر المتردد، وانزلاق في متاهاته. ولما كانت الكتابة بضاعة متداولة بين الكاتب والقارئ، وجب على الطرفين إعطاء الموقف ما يستحقه، وتفادياً لتصدُّع العلاقة أو فتورها، حرصت على كسب القارئ، باحترام مشاعره، فالذي لا يحترم قارئه، لا يستحق الاحترام. وما أكثر المغالطين والمفترين والمحرّفين. والإشكالية ليست في ذات القراءة، ولكنها في القارئ والمقروء، ومدى ما لديهما من تفاعل. ولعلّنا نتذكّر تداول (المركزية) بين المؤلِّف والنص والقارئ، وأثر هذا التحوُّل في نتائج القراءة. والمسهم في الحركة الفكرية والأدبية والسياسية لا بدّ أن ينوِّع المقروء، وأن يعدد مستويات القراءة، وأن يكون متابعاً لحراك المشاهد، راصداً لتحوُّلاتها، مؤصلاً لمعارفه، متقصِّياً لجذور الفكر بكلِّ تنوُّعاته، عارفاً أو متعرفاً على القوم من مشاربهم، ومن لحن القول، مسترفداً كلّ المناهج في مواجهة المستجد، ذلك أنّ لكلِّ فكر آليته ومنهجه ومرجعيّته وجذوره. وما لم يكن القارئ على بيِّنة من أمره، أضلَّه السامري، وما أكثر السامريين الذين يستدرجون المبتدئين من حيث لا يشعرون. والمشاهد تعجُّ بالسذَّج والخدّاج. وتنويع القراءة وتعدُّد مستوياتها سبيل النجاة وحفظ الجهد والوقت والمال. وإن لم يتوفر القارئ على تلك الاحتياطات فإنّه يفوِّتُ على نفسه المتابعة والرَّصد والاستيعاب، بحيث تبدو في إسهاماته فجوات تكشف عجزه عند المواجهة. وما أكثر الذين يعييهم الجدل فيستدبرون الموضوعات ويموضعون الذوات، وما أكثر الذين يقولون منكراً من القول وزورا. والفرق واضح بين المنْشِئين والمؤصلين، والفقهاء والكتّاب. وكم ضحكت - وشرُّ البليّة ما يُضحِك - من كُتّاب يتداولون قضايا مصيرية من خلال ثقافة السماع الإعلامي، وهي ثقافة متسطّحة، لا تزيد المشهد الثقافي إلاّ تشرذماً وفرقة وخبالاً، وتقحُّم (الفقه الأكبر) يتطلَّب التوفُّر على الأصول والقواعد، ف(النص)، بحرٌ لُجِّي داخله مفقود، وخارجه مولود، ولهذا أمر الله بالنفور للتفقُّه في الدين، ولم يكتف بمجرّد السماع. ومن القراء والكتّاب من يميل مع الرياح حيث تميل، لا تعرف له مذهباً، ولا تقف له على قضية. ومنهم من إن تراجعه في جنحة، لا يستمع إليك، ولا يسائل نفسه: أحقٌّ ما أقول؟. ولأنّ الحياة مسرح يتعاقب عليه ممثلون من كلِّ جنس ولون، فإنّ واجب النظّارة ألاّ يكونوا ريشاً في مهب الريح. وما لم يكن هناك تأصيلٌ معرفي، ينطلق من قعر حضارة الانتماء، وموقفٌ فكريٌّ مصون عما يزعزعه، فإنّ الإنسان يكون كالمرآة في كف الأشل. وفي ظلِّ ذلك التنوُّع والتَّعدُّد يتحتّم على المتابع أن يبذل جهداً استثنائياً، يمكِّنه من الوجود الكريم في أكثر من مشهد. ولقد تكشّفت لي من خلال تجربتي الثقافية أنّ على الراصد للحراك الفكري والسياسي أن يتضلّع من المصطلحات، وفق مفاهيمها الأصلية. ولن يتأتّي ذلك إلاّ بالتوفُّّر على أمهات الكتب, والوصول إلى المصادر الأصلية. فالمفاهيم المتداولة للمصطلحات مفاهيم إعلامية، متّكؤها ثقافة السماع. كما تبيّن لي أنّ منشأ الخلاف في كافة المشاهد مرُّده إلى تضارب المفاهيم، وتعدُّد المصادر، فمن يعول على الرؤية الغربية، يكون خطابه مرتبطاً بتلك الرؤية، ذات النزوع المادي. والمصطلحات وإنْ بدت مغرية إنْ هي إلاّ ناتج حضارة مغايرة، وليست بريئة، وإن كانت مقاصدها العامة حسنة ف(الديموقراطية) - على سبيل المثال - تدعو للحرية والعدالة والمساواة، وتداول السُّلطة، وانتقالها وفق آلية حضارية ك(الانتخاب)، وهذا حسن ومطلوب لأنّه من ضوال المؤمنين، والحقُّ ضالّة المؤمن أين وجده فهو أحقُّ به، ولكن (الديمقراطية) في النهاية منتج فكر مادي لا ديني، يرد للشعب، ولا يرد إلى النص التشريعي. والقبول بها على الإطلاق ناتج جهل بالجذور الفكرية للمصطلح، فمصطلحات كلِّ حضارة لا تكون بالضرورة صالحة على إطلاقها، وإن قيل بتفريغ المحتوى، وليس من المعقول أن تكون ملائمة لكلِّ الحضارات. ولما كان معوَّل الحضارة الغربية على العقل المجرّد، ومعوَّل الحضارة الإسلامية على النص والعقل معاً، أصبح هناك فجوة بين مفاهيم المصطلحات ومقاصدها. فمصطلح (الحرية) مثلاً له مفهومه الغربي ومقتضاه، وله مفهومه الإسلامي ومقتضاه. ف(الحرية) في الإسلام منضبطة أو مقيَّدة بنص، وهي فيما سواه مطلقة، وليس إطلاقها فوضوياً بالضرورة، ولكنه مخالف للمقتضى الإسلامي، ولأنّ (الحرية) جزء من (الديموقراطية) وهي كل (اللبيرالية) و(الوجودية) فإنّ الحديث عنها بمعزل عن المرجعيات مظنّة الاختلاف، وهو ما نشاهده في أوساطنا الفكرية التي لا تضع قيمة للتأصيل والتأسيس. وتجربتي الثقافية كشفت لي عن زيوف، لا يجوز القبول بها، وعرَّت مشاهد يحسبها البعض على شيء من الحق، وما هي كذلك. وعلماؤنا الأوائل قعَّدوا القواعد، وأصّلوا الأصول، وحدّدوا المناهج، ولم يتعاملوا مع القضايا والنصوص بحرية. فعلماء الحديث لهم مصطلحاتهم، وعلماء الفقه لهم أصولهم وقواعدهم، وعلماء التفسير لهم ضوابطهم. ولك أن تقول مثل ذلك عن علماء النحو والصرف والبلاغة. وكلُّ المذاهب الكلامية والفقهية والنحوية والصرفية والأدبية تحيل إلى قواعد وأصول. فعلم البلاغة والعروض والتجويد يُركز على الجماليات الصوتية، ومثل ذلك الرسم والنحت. والجمال أصبح نظرية لها فلسفتها بشقّيها: الحسِّي والمعنوي، ولا جمال مع الفوضى والعبث والغثيان الوجودي. وكلُّ ضوابط علم لها مقاصدها. والضوابط والحدود تمكن من السيطرة على الاختلاف وحسمه، وأي ظاهرة لا يحتكم المختلفون حولها إلى مرجعية متّفق عليها، تظلُّ كما الوحل، لا تزيد الإنسان إلاّ ارتكاساً. والاختلاف من السُّنن الكونية، وأسبابه كثيرة، فالنص الحمَّال، والدليل بين القطعي والاحتمالي، والسياقات والأنساق، والمقاصد، والعموم والخصوص كلها أسباب معقولة ومتوقّعة. والمتعصِّبون لآرائهم لا يعرفون دواعي الاختلاف، وأصحاب الأهواء يضلون عن الحق، ولقد أسهم (التأويل) في القديم و(التفكيك) في الحديث في تعميق الاختلاف، ولا يحسمه إلاّ الإذعان للمرجعية واستحضار الضوابط. وفوضوية المشاهد الفكرية والأدبية مرجعها إلى التمرُّد على المرجعية، وفهم الحرية على غير وجهها، وعدم التزوُّد من العلوم وضوابطها. إنّ الداء العضال الذي فتّت الوحدة الفكرية في أُمّة هي أحوج ما تكون إلى التماسك والاعتصام، مردُّه إلى علّتين: الفوضوية باسم الحرية، ونبذ المرجعية باسم الاجتهاد، ورصدي للعراك، وخوضي لبعض معاركه، جزء من تجربتي الثقافية، ولهذا سعيت لإشاعة المناهج والآليات، التي تضبط الإيقاع، وحرصت على التزوُّد منها، لأنّها الأقدر على الأطر. ولو عدت إلى تذكُّر تجربتي الثقافية، وما أسفرت عنه لوجدتها - فيما أرى - تجربة غنية ومفيدة، لقيامها على مرتكزين: الأخذ والعطاء. فالأخذ يتطلّب الانتقاء والفهم، والمرور بالمنتقى عبر بوابات حضارة الانتماء. والعطاء يتطلّب التضلُّع من سائر المعارف. فالمفكر والأديب كالنحلة، إن هي لم تنطلق لامتصاص نسغ الزهور، تكون كالذباب. وعلى المفكر أن يستحضر مهمة النفع والإمتاع. وحاضر المشاهد الفكرية والسياسية والأدبية تضطر صاحب المواقف إلى إكراه نفسه على قراءة سائر الأفكار المستقيمة والمنحرفة، تمشياً مع قاعدة (الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره)، فالناقد يمارسْ المرافعة ضد الأفكار المنحرفة، ولن تتحقق له الغلبة حتى يتعرّف على تلك الأفكار وجذورها التي يستمد منها أحكامه ومواقفه، ولهذا فإنّ قراءتي للأفكار المتعدِّدة المنازع والاتجاهات، تكاد تفوق قراءتي لما أنا منه، ولما هو مني. ومن البدهيات أنّ الحياة الدنيا خليط من الخير والشر، وأنّ الخيرية لا تكون محضة في شيء، وأنّ الشر لا يكون محضاً في شيء، وأنّ الإنسان بوصفه إنساناً لا تشمله الخيرية حتى يأخذ بأسبابها، وأي تجربة واعية تستحضر الافتتان، ومن ثم تستصحب الصبر والمصابرة والمرابطة. والإنسان في القرآن قلّ أنّ يأتي إلاّ في سياق الذم، كما (الترف)، وحديث العقاد في كتابه (الإنسان في القرآن) يجلِّي هذه الإشكالية التي عالجها بشيء من العلمية الدكتور (زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الإنسان)، ومن ثم فإنّ الإنسان متنازع عليه بين قوى متعددة. ويكفي أنّ الشيطان توعَّد كما قال الله تعالى عنه {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، والإنسان بهذه المؤهلات مشروع خير عميم، أو شر مستطير، ودخول المشاهد بهذه التوقُّعات يقي من المفاجآت ومن ألقى نفسه في أتون الجدل، فعليه أن يُعد للجدل عدّته، وتتمثّل في القراءة الشمولية المعمّقة، والمتابعة الدقيقة لفيوض المعارف الجديدة. وإذا كان انتصار الجيوش في ثلاثة أمور: الإيمان بالقضية، والإعداد للمواجهة، والتخطيط للفعل، فإن المرابط على ثغور حضارته لا بدّ أن يتمترس خلف الكتب، وأن يكون على ثقة بنفسه، لا يلتفت إلى الخلف، ولا يستفزه اللغو. ولا تزلقه أبصار التافهين. وفي الوقت نفسه عليه ألاّ يأخذه الغرور والعجب. ولا يحفظ التوازن إلاّ الإذعان للحق، والترفُّع فوق الترهات. وبعد هذا وذاك، فإنّ الثقافة فيما أرى كالمشروبات والمأكولات المحدودة الصلاحية، فمن عوّل على الماضي وحده، كان كمن عزل نفسه، ومن عوّل على الحاضر وحده كان كمن أقام بناءه على شفا جرف هارٍ. وعلى ضوء ذلك لا بدّ من التجديد المستمر للأفكار، وحضور المشهد استكناهاً ومشاطرة واستغلالاً. فالتبعية إلغاء للذات، والصدامية إنهاك للذات، والمداهنة تزييف للذات. وعلى المثقف أن يختار المواقع المناسبة بشروطها، فليس الاختيار ممكناً بمجرّد الرغبة. إنّ حماية الذات وتفعيلها يتطلّبان أثماناً باهظة. وقدر الناقد أنّه كالنافخ في الرماد بحثاً عن جذوة أو قبس، فهو لا ينجو من تصاعد الرماد، وفوات الجذوة. وخلاصة التجربة الثقافية تقوم على المرتكزات التالية: - القراءة المعمّقة الشاملة. - والمتابعة الدقيقة للمستجدات. - والثبات على الموقف. - والتأصيل المعرفي. - وتحرير مسائل الاختلاف. - وتحديد المرجعية والإذعان لها. ومعتصر المختصر يكمن في إشارتين عظيمتين: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}. وتجربتي الثقافية لما تزل تلح بأنني مبتدئ أتهجَّي أبجديات المعارف في الصفوف الخلفية.
|
|
|
| |
|