| |
ماذا (يجري) في (الرَّسِّ)..؟!! حمّاد بن حامد السالمي
|
|
* الرس في اللغة: (البئر والمعدن)، وقال ياقوت: هي قرية باليمامة، يقال لها: (فلج)، وجاء ذِكْرٌ واسع ل (الرس) في كتب بلدانية وتاريخية ولغوية وأدبية كثيرة، فكتب عنها خلاف ياقوت الأموي: (الأصبهاني، وابن دريد، والأصمعي، والإسكندري، وابن الأنباري وابن السكيت) وغيرهم، وابن السكيت تحديداً، عاش في القرن الثالث الهجري، وربما كان ينقل عن أقوام سبقوه كثيراً، فالرس إذن قديمة العهد. * واهتم بتاريخ الرس، مؤرّخون معاصرون من المشاهير، من أبرزهم: (حافظ وهبة، وعمر رضا كحالة، والمستر لومير، وابن ضويان، وابن بسام، وابن غنام، وابن بشر، وابن خميس، والجاسر) وآخرون كثر، والجاسر - رحمه الله -، كان أشملهم، ووصفها فقال: (تتميّز الرس، بشجاعة أهلها، وسعة تجارتها، وبطيب هوائها، وعذوبة مائها، وميل أهلها إلى الانخراط في السلك العسكري). * وللرس، ذِكْرٌ واسعٌ في الشعر العربي وفي الشعر الشعبي، ومن أشهر شعراء العربية الذين ذكروها قديماً: (عامر المكاري، وبدر بن مالك بن زهير، وزهير بن أبي سلمى، وكعب بن زهير رضي الله عنه، والحطيئة، ولبيد بن ربيعة رضي الله عنه، ثم الخنساء). * والرس اليوم، هي من كبريات مدن ومحافظات القصيم، فيبلغ عدد سكانها (100 ألف نسمة) تقريباً، وهي رئة وطنية نابضة بالحب والحياة، عرف عنها ولاؤها الفريد، فقد دخلت تحت لواء الدولة السعودية الأولى، وقامت بمساندتها في صدِّ غزوتين استهدفتا قلب نجد، ودارت رحى الحربين في الرس وهما: (حرب طوسون عام 1230هـ)، وحرب (إبراهيم باشا عام 1232هـ)، واستمرت الرس كذلك، في مساندة الدولة السعودية الثانية في عهد (الأمام تركي بن عبدالله). * وسجّل التاريخ بمداد من ذهب ما قام به أهل الرس، الذين هم أهل العزم، و(أهل الحزم)، كما يُطلق عليهم ويحبون ذلك، من دور عظيم في المساهمة في توحيد المملكة، على يد الملك الموحِّد والمؤسِّس (عبد العزيز آل سعود) - رحمه الله -، فمما يفخر به أبناء الرس، دورهم في موقعة الوادي (الشنانة) سنة 1323هـ، التي وقعت في إحدى ضواحي الرس، وساهم فيها أهل الرس بكلِّ ما أوتوا من قوة، فتمكّن المؤسِّس - رحمه الله - بعدها من السيطرة على نجد. * وكانت محافظة الرس من أولى البلدان النجدية التي دخلها التعليم، فخرج منها علماء وأدباء وحماة وطن يشار لهم بالبنان، وخدم أبناؤها وطنهم في كافة قطاعاته العسكرية والمدنية، وما زالوا كذلك وعلى ذلك، وما تزخر به الرس اليوم، من كوادر وكفاءات متميّزة، يدل على أنّها جوهرة رائعة في عقد الوطن الثمين. * قبل عام ونصف على وجه التقريب، اتجهت أنظار العالم إلى محافظة الرس، عندما وقعت أكبر وأطول مواجهة مع عناصر إرهابية في حي الجوازات، وسقط فيها أكبر مجموعة من هذه العناصر الإجرامية، واستبشر أهل المحافظة خيراً، بل هنّأ بعضهم بعضاً، لأنّه لم يظهر واحد من أبنائهم، بين هذه العناصر الخائنة، والشيء بالشيء يُذكر، ذلك أنّ أهل الرس في تلك الحادثة الأليمة الذي لا ينسى مواطن مخلص مشاهدها - جسَّدوا أعظم ملحمة للتلاحم والتعاون مع وطنهم وقادته ورجال أمنه، فقد رأينا أروع صور الرفض والمقاومة .. لكافة المظاهر الإرهابية، فتجسَّد ذلك، من خلال ما بذلوه من دعم مادي ومعنوي، حتى نساء وأطفال الرس، شاهدناهم على القنوات، وهم يقدمون الماء والطعام لرجال الأمن، وقوبل حماسهم الوطني هذا، بإشادة من رجل الأمن الأول، الأمير (نايف بن عبد العزيز)، عند زيارته للرس، بعد انتهاء الحادثة مباشرة. * لماذا أكتب عن الرس هنا، ثم أتساءل: ماذا يجري في الرس..؟! * في بلادنا الواسعة الخيِّرة، مناطق ومحافظات ومدن وبلدات كثيرة، لا يراها المرء بعينيه أحياناً، لكنه قد يراها بقلبه وبأذنيه في كلِّ حين، وبما يعرف عنها من زملائه وأصدقائه فيها، والرس مثل بريدة وعنيزة والزلفي وغيرها، محافظات لم أشرف بزيارتها، لكني أعرفها كأني واحد من أهلها، وعلى فترات متقاربة ومتباعدة، كانت تصلني مكاتبات واتصالات، من بعض أهالي الرس الذين أعرفهم ويعرفوني، طالبين مني أن أكتب عن ظواهر يرفضونها في محافظتهم، ويرون أنّها دخيلة عليهم، وغريبة على نسيجهم الاجتماعي، وهم محقُّون في ذلك، وما يقومون به من رفض للتطرُّف، ومقاومة لشتى ألوانه، يذكِّرني بموقف أهالي (الزلفي)، التي هي من محافظات منطقة الرياض، فهو موقف وطني ينبغي أن يُحتذى فلا يُنسى، ونظراً للتشابه في شكاوى أهالي المحافظتين من داء التطرُّف ومقاومتهم له، كنت أقول: (إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في الرس، يجب أن تعرف ماذا جرى ويجري في الزلفي)..؟! * ما دعاني أكثر، للكتابة عن الرس في هذا الوقت، هو ما قرأته قبل أيام خلت، عن بعض المداهمات في المحافظة، والقبض على بعض الأشخاص، والتحفُّظ عليهم، ووجود سيارة في إحدى الاستراحات، فيها بعض المبالغ المالية، وفيها (سيديهات) ومنشورات، وكنا سمعنا في العام الماضي عن مجموعة من شباب الرس، غَرّر بهم المغرِّرون، فذهبوا إلى ما يسمّى بالجهاد في العراق، وقُتل العديد منهم، ممن كانوا في ريعان الشباب، وكان أحدهم متفوِّقاً في كلية الطب. كلُّ هذا وغيره، يثير بدون أدنى شك، فزع أهل الرس وخشيتهم مما هو قادم، وكلُّ مواطن يعرف مخاطر التطرُّف والغلو، المفضي إلى عمليات إرهابية كما حدث في الرس وفي غيرها، يخشى ما يخشاه إخوته وأخواته في الرس، وهذا مما دفعني لأن أكتب عن هذا الموضوع، وأتطرّق إلى ما يحصل في المحافظة، وهو بعض مما وصلني ممن يحبون هذه المحافظة من أبنائها، ومن حق أهالي الرس كافة عليَّ، عدم استثناء أي واحد منهم، من الحب لقيادتهم، ولوطنهم، ولمحافظتهم الأصيلة الجميلة، إلاّ من صنّف نفسه خارج دائرة الحب هذه. * ولأنّ أهالي الرس كافة، يحبون وطنهم في حبهم لمحافظتهم، فمن حقهم إذن، إنكار ما يرونه منكراً، مما يتعارض مع دينهم ومبادئهم ووطنيتهم، والبحث عن تفسيرات مقنعة، لبعض ما يدور في محيطهم من ظواهر يرونها طارئة عليهم، فما معنى أن تتضافر وتتناصر شرائح معيّنة وقليلة في المجتمع، لبسط السيطرة على مناشط تعليمية ودعوية وخيرية، وحجر قياداتها على أنفسهم، دون غيرهم..؟ وكيف يتدخّل أعضاء في المجلس البلدي، متجاوزين صلاحياتهم، لمنع وصول دكتور لعمادة إحدى الكليات..؟، ولماذا تُرفض وترد محاضرات دعوية من أناس، ويفسح المجال لغيرهم..؟ ولماذا يشعر بعض المعتدلين، أنّه يُبعد بعَمَد عن منابر الجمعة..؟ ولماذا لا تترجم تعاميم وزارة الشئون الإسلامية إلى واقع، خاصة في شأن التجاوزات، التي يراها البعض في بعض خطب الجمعة، وفي دعاء القنوت..؟ وماذا يراد بمحاضرات تحمل عناوين من مثل: (قصة أصحاب الأخدود ? إنّهم فتية آمنوا بربهم ? اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، وكانت تعقد في توقيت مخيب للآمال، فتبدو وكأنّها تستفز الناس، وهو زمن المواجهة الأمنية مع العناصر الإرهابية، ففي يوم مواجهة عنيف في الرس، ظهرت لوحات إعلانية في المساجد، تبشِّر بمحاضرة عنوانها: (الفدائي الأول)..؟! * وتبرز علامات استفهام أهالي الرس كذلك، حول أمور تعليمية كثيرة .. ماذا تعني غلبة شريحة من الناس دون غيرها، على القيادات المدرسية، والتوعية الإسلامية..؟ وكيف تتأخر حركة روّاد النشاط في مدارس المحافظة..؟ ولماذا السكوت على مديري ومديرات مدارس، لم يأبهوا بمناسبة وطنية عزيزة مثل الاحتفال باليوم الوطني على سبيل المثال، رغم التوجيهات والتعليمات الصريحة..؟ وكيف كوفئ أحد المعلمين، الذي هو إمام مسجد في الوقت نفسه، عندما وزع شريطاً يفنِّد الجهاد الأفغاني، ويوضح ما فيه من شرور، وما زرعه في أذهان أبنائنا، من فكر منحرف، وما تعلّموه هناك من تكفير وتفجير..؟ لقد خضع للمساءلة والتحقيق من قِبل إدارته والشئون الإسلامية، ثم ضُيِّق عليه بعد ذلك، فتم إنزاله من معلم صف سادس، إلى معلم صف أول، وعندما اعترض على وجود شعار دعائي لقناة تلفزية خاصة على دفاتر وواجبات التلاميذ، قامت عليه الدنيا ولم تقعد..! * ومن جملة ما يروى هذه الأيام في محافظة الرس، قصة أستاذة ومربِّية فاضلة، ساهمت بجهد خاص في تأسيس دار للرعاية الاجتماعية في الرس منذ ربع قرن، وظلّت تعمل بها لأكثر من عشرين عاماً، وكانت تعدّها بيتها الثاني، وتعد منسوبيها كافة، بمثابة أبنائها وبناتها، فجاء اليوم الذي يُضيق فيه عليها المضيقون، لتخرج من الدار قسراً، لا لشيء، إلاّ لأنّها لم تفهم معادلة (إذا لم تكن معي، فأنت ضدي)..!! * ويرى أهالي الرس، أنّ بعض ما يجري رغماً عنهم في محافظتهم، لا يليق بمجتمعهم الوطني، الذي يخشى على مستقبل أبنائه، ومن حقه أن يخشى .. ويخشى. فالحيرة تبدو على الوجوه، عندما يحتفل الوطن كلُّه بيومه الوطني، وتحتفل الرس بهذه المناسبة، ثم يقام مخيّم دعوي لعدّة أيام، متزامناً مع المناسبة نفسها..! وكأنّه كذلك للإشغال وصرف الأنظار..! وبعد تفجيرات المحيّا الشهيرة في الرياض، تُدخل قناة خاصة توصف ب (الدينية)، إلى مرافق مستشفى الرس القديم، دون القنوات الرسمية الأربع..؟! * وهذه واحدة من المحيرات المستجدات على أهالي الرس. لقد اشتهرت هذه المحافظة، بفنونها الشعبية الرائعة، وكان لها ما تقوله فنياً في مناسبات كثيرة، كعيديْ الفطر والنحر، واليوم الوطني، والمهرجانات الشعبية، والاستقبالات الملكية، وغيرها. وكانت قد أقامت منذ عامين، العرضة السعودية، لكن مع موجة اختطاف المناشط الترويحية في الرس وفي غيرها من المدن، حتى في ميدان السياحة، فقد تم رصد جوائز كبيرة ومغرية لبرامج أخرى طارئة، هدفها صرف الأنظار عن مهرجانات الأهالي واحتفالاتهم الرسمية، ففي هذا العام على سبيل المثال، تصدّى المجلس البلدي لهذه المهمة (الدعوية) ? وكأنّه وجد من أجل هذا ? فاستطاع إلغاء الفنون الشعبية من احتفالات الرس، ومنها العرضة السعودية، وعوض أهالي الرس، بمضحكين ومنكِّتين ومهرِّجين، استقدمهم من (استديوهات) قناة معروفة بهذه الألوان..! فخيّم الحزن على الرس وأهلها في يوم فرح وسرور .. يوم العيد السعيد، الذي كانوا فيه يفرحون ويمرحون، ويرقصون بسيوف المجد، تحت ظلِّ العلم الأخضر، وشعاره المجيد (لا إله إلاّ الله .. محمد رسول الله)..؟!!
assahm@maktoob.com |
|
|
| |
|