| |
أنت العلمانية م. عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
|
|
لم يسبق قبل اليوم أن واجه مصطلح فكري التباين والتناقض في مفاهيمه لدى الناس جميعاً - علمائهم وعامتهم - مثلما واجه مصطلح العلمانية.. فقد اختلف علماء اللغة حول مصدر اشتقاق مصطلح العلمانية.. هل هي من العلم أم من العالم ولكن الرجوع إلى الأصل اللاتيني للمعنى (SECULAR) يجعلنا نؤكد انها مشتقة من العالم أو الدنيا كمعنى مضاد لكلمة الدين أو الكهنوت.. أما في الخطاب الاجتماعي والسياسي فهي تعني فصل الدين عن الدولة.. وقد استخدم هذا المصطلح لأول مرة في وثيقة صلح (وستفاليا) عام 1648م.. التي أنهت الحروب الدينية في أوروبا.. حيث أممت الدول ممتلكات الكنيسة ونقلتها إلى سلطات الإدارة المدنية غير الدينية.. وكان التعريف في الوثيقة لذلك التأميم (علمنة ممتلكات الكنيسة) أي جعلها علمانية دنيوية غير كهنوتية وغير دينية.. بعد ذلك بمائتين وخمسين عاماً عَرَّف جون هوليوك المتوفى عام (1906م) العلمانية بأنها (الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان بالقبول أو بالرفض). والدكتور عزيز العظمة يؤكد أن مصطلح العلمانية على مستوى العالم عموماً والعالم العربي خصوصاً من المقولات والمفاهيم الكبرى التي ترسم مفردات خطابنا المتداول في الشأن السياسي والاجتماعي والثقافي.. وأنها كالحرية والديمقراطية والثقافة والمجتمع المدني والعقل والتاريخ والترقي والأصالة والتراث وغيرها.. تم التعامل معها بكثافة لغوية وبخفة مفهومية في آن واحد.. وتتسم بدخولها في مجالات خطابية هلامية غير منضبطة.. ومفتقرة إلى الدقة والجدة والتدبر.. بل والفهم.. فهي جانحة إلى الاستخدام السجالي والاندراج المباشر في السياسات الآنية والظروف المرحلية. (انتهى) الداعون إلى العلمانية يقولون إنها فكر عقلاني وبالتالي فهي مبدأ محايد مع كل الأفكار والأديان والفلسفات والعادات والتقاليد.. فهي لا تتعارض معها كما أنها لا تدعمها أو تنحاز لها أو ضدها.. حيث يفترض فيها أن تتخذ المسار الذي يتفق مع الصالح العام وفائدة الناس وعدم الإضرار بهم.. وهذا هو تماماً ما تتفق عليه الأديان وتدعو إليه. العلمانية إذاً ليست دعوة فكرية تريد أن تحل محل أيديولوجية بعينها.. أو تكون بديلاً لفكر أيديولوجي آخر.. أو حتى أن تكون بجانبها أو مسايرة لها.. فالعلمانية كما يصفها الراغبون فيها هي بيئة حراك اجتماعي ومكان ومقر ووسيط فهم والتقاء لا محور جدال أو طرفا في نزاع.. وهي في نظرهم وسيلة تتيح للناس ابتكار سبلٍ جديدة لتيسير شؤون حياتهم.. وتتماشى مع تطور مجتمعاتهم. العلمانية هي نتاج استجابة المجتمع الأوروبي الذي صدم باضطهاد الكنيسة للعامة وقسوة ردود فعلها على العلوم والمخترعات واتساع ممتلكاتها من الضياع والمزارع والقصور.. فسعى للعمل على تنقية الفكر المسيحي من كل ما هو غير عقلاني.. ورفع الوصاية عن التعليم تمكيناً للفطرة الإنسانية من الاختيار. هذا لا يعني أنه لا يتم استغلال العلمانية أحياناً لخدمة السلطة.. ونقض أهم مبادئها وهي أنها لا تحل محل أحد أنها مقر وحاضن لكل فكر في كل مجال يتفق مع العقل والعلم.. فنجد أن السلطة باسم العلمانية تسلطت على المخالفين لها من الناس والمجتمع كما هو حاصل في تركيا وفرنسا تجاه الحجاب. وأخيراً يقولون: إن العلمانية ليست إلحاداً.. فالإلحاد حَوَّله المستفيدون منه إلى عقيدة بذاتها وإن كانت منافية للأديان.. فالتجربة السوفيتية والصينية أثبتت أن الإلحاد تحول إلى عقيدة تحارب كل مخالف لها وتقمعه حتى الإعدام. الثقافة العلمانية منذ نشأتها لم تكن محاربة للدين إلا في فرنسا والدول الشيوعية سابقاً.. بل إن الظاهر هذه الأيام أن ارتفاع تأثير التيار الديني وانتشار خطابه في الشؤون العامة في الديمقراطية العلمانية كأمريكا وفرنسا مثلاً أشد منه في الدول ذات الدين الرسمي كبريطانيا. أما الباحثون فقد اتفقوا على أن العلمانية في حقيقتها نوعان: علمانية جزئية وتسمى أخلاقية أو إنسانية وهي تفصل الديني عن المدني فقط.. مع حرية الفرد في إيمانه ومعتقداته.. وعلمانية أخرى شاملة.. حيث تهيمن الدولة على الدين إما بإلغائه أو استخدامه. كما أن العلمانية في الدول الديمقراطية تختلف عنها في الدول الدكتاتورية من نواحي هيمنة العلمانية وشمولية تطبيقها.. فمنها ما كانت تقبل بالدين في حدود الدائرة الفردية مع رفض تدخله في الشأن العام كما في تركيا.. وهناك اتجاه متطرف يرفض الدين ويحاربه كما يفعل الشيوعيون في دولهم.. واتجاه ثالث تعامل مع العلمانية كحاضن ومقر لا كمذهب أو عقيدة كما في إنجلترا. ويؤكد دعاة العلمانية المسلمون أن الدين الإسلامي يتقدم الأديان كافة بحالة لا توجد في غيره وهي الاتصال المباشر بين الخالق وخلقه فلا واسطة ولا وسيط.. إلا أن هذه الخاصية الفريدة استغلت خلال الحقب التاريخية التي تلت الحكم الراشد.. ودفعت باتجاه توظيف الدين في خدمة السياسة. أعداء الإسلام المناوئون له يصرون على عدم توافق الإسلام مع العلمانية.. وأنه لا مدنية ولا حداثة من دون إلغاء الإسلام كدين وفكر.. وأن الطريق الوحيد لانتشال المسلمين من التخلف الذي هم فيه هو بإبعادهم عن الدين الإسلامي.. والمشكلة أن الذين يدعمون هذا الرأي وهذا التوجه هم الذين يصرون على حتمية الربط الكامل بين الدين والدنيا وعدم الفصل بين الديني والمدني.. وبين (المقدس والمدنس) كما يصفه المفكر الراحل علي عبدالرازق. أخيراً الربط بين العلمانية والحداثة وأنهما شيء واحد.. هو إخلال بالواقع واختزال للحقيقة.. فالعلمانية فلسفة.. بينما الحداثة منتجٍ.
|
|
|
| |
|