طير حوران شاقتني مضاريبه
سعد بن جويعد العجمي

رحلت يا والدي ورحلت معك كل معالم السعادة، رحلت وانتهى برحيلك عقد من الزمن لك أن تسميه زمن الطيب والوفاء.
يا والدي لقد جرح قلوبنا موتك، ولن تداو جروحنا أفراح العيد.
هذا هو اول عيد نعيشه بدونك، ولكنه عيد لبسنا فيه ثباب الحزن، عيد بلا طعم ولا فرحة، وكيف نفرح وأنت غائب عنا يا بوخالد، لأن الفرحة والعيد هو ابتسامة من محياك.
في كل عام أصلي العيد ثم أتوجه إلى مجلسك وأسلم عليك وأهنئك بالعيد وترد علي بعبارة (من العايدين ياسمي)، ولكن هذا العام صليت العيد وتوجهت إلى مقبرة العود لأسلم عليك في قبرك، فإن كان جسدك قد رحل فإن صورتك وذكراك باقية في عقولنا وقلوبنا للابد نستنير بنورها ونمشي في دروبنا على ضوئها.
لن أنسى يا سيدي مشاهد استقبال جسدك الطاهر بالمطار، ولن أنسى منظرك وانت محمول على الاكتاف، ولن أنسى ذلك الفجر الذي سكنت فيه القبر فقد كان فجراً لا ينسى رأيت فيه صفوة المجتمع يذرفون دموعهم عند قبرك.
لقد عزانا في موتك آلاف البشر من كبار وصغار رجالاً ونساء، وعرفت حينها أن الناس هم شهداء الله في خلقه.
إنها حكمة الله يا والدي فقد اختارك في رمضان في شهرك المحبب إلى قلبك وفي العشر الأواخر منه وبعد أن وزعت الزكاة على الفقراء والمساكين كعادتك في كل عام، فماذا أقول عن إنسان انشغل وهو في ذروة مرضه بإخراج الزكاة ويتابع إخراجها وهو على سرير المرض، إنسان لم يتوقف نهر صدقاته من التدفق حتى قبل موته بلحظات، إنسان قضى معظم وقته في المستشفى بالتسبيح والأذكار، ولم يكن يسأل عن أفضل الأطباء والعلاج إنما كان يسأل عن القبلة ويصلي وهو على سريره طالباً ربه، إنه حقاً الإيمان بالله ونعم التوكل عليه.
رحلت أيها الرجل المؤمن يا من كانت الصلاة هي شغلك الشاغل في الدنيا وكنت تحسب الدقائق والساعات ومواعيد الأذان لكي تؤديها في وقتها ولعل ذلك هو ما جعلك تشيد في الأرض أكثر من أربعين مسجداً وجامعاً في المدن والقرى والهجر وتجهزها بالماء والتكييف وتزودها بالمصاحف، رحلت بعدما حفرت آبار الماء في الصحراء لتسقي المسلمين والبهائم والزروع والأشجار والنخيل، رحلت عن الدنيا بعد أن قدمت للناس كل أعمال الخير، فقد ساعدت هذا على الزواج وسددت دين هذا ودفعت الدية عن ذاك وساعدت الآخر على شراء بيت واشتريت للآخر سيارة وساهمت في دخول الشباب للجامعات والكليات وعالجت أعدادا هائلة من الناس على نفقتك الخاصة في الداخل والخارج، وامتدت خيرات أياديك البيضاء من نجد إلى كافة مناطق ومدن المملكة بل وإلى خارج المملكة، فالكل يقصدك بادية وحاضرة.
يا سيدي لن أنساك وكيف أنساك وأنا قد ولدت في بيتك الشامخ في عليشة ونشأت وتربيت تحت أنظارك وتوجيهاتك، لقد كنت لي سنداً في الدنيا وكنت لي أباً عطوفاً وكنت بحق استاذي وقدوتي، واسمح لي يا سيدي أن أفصح للناس عن آخر حوار دار بيننا قبل سفرك للعلاج: (سلمت عليه بعد أن صلى العصر فسألني كيف حالك يا ولدي وكيف صحتك فقلت له الحمد لله يا والدي فقال لي: إني أدعو لك مع أبنائي في صلاتي بالليل، وأريد أن أوصيك فقلت: بماذا يا والدي؟ فقال: أوصيك بوصيتين فيهما علاج من هموم الدنيا، فقلت: ما هما فقال: عليك بالصلاة وقراءة القرآن. أكثر من الصلاة وافتح المصحف واقرأ وكررها أكثر من مرة، ثم انتهى الحوار وخرجنا) إنه حقاً الإيمان بالله ذلك الإيمان الذي يجعل إنسانا وهو في مرضه يدعو الله للآخرين.
يا سيدي اشتقنا إليك واشتاق إليك المكان والزمان والناس، فماذا أقول إذا سألني عنك فقراء عتيقة والديرة ومنفوحة، وبماذا أجيب إذا سألني عنك الأيتام والأرامل، يا سيدي لقد اشتاق إليك أخوك في الدنيا ورفيق دربك جويعد بن سعد العجمي واشتاق إليك خوياك واشتاقت إليك مزرعة العدامة ومزرعة الخرج، واشتاقت إليك الخيام ونسايم نجد ورمالها، واشتاقت إليك فنون الشجاعة ومعالم الكرم والجود، واشتاق إليك المقناص واشتاقت إليك صقورك التي تعلمت منك حدة النظر وقوة الشخصية، واشتاقت إليك الحبارى بالمقناص وهي تغني (طير حوران شاقتني مضاريبه)، واشتاقت إليك الغزلان والضباء، وماذا أقول عن الإبل التي عذبها غيابك يا أمير.
نعم لقد ترجل الفارس عن فرسه ورحل، رحل راعي عليشة راعي الباب المفتوح، القرم ابن القروم، أمير العز والطيب، أبو اليتامى وأخو المرضى وسند المساكين وناصر المظلومين، وفكاك المشاكل والنشب، راعي الفزعات، معتق الرقاب، كريم اليمنى.
رحل الأمير بعد أن شهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمدا رسول الله وبعد أن أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت الحرام وساهم في إعمار الأرض.
رحل الأمير الشهم وتوزعت أوصافه وأطباعه على أربعة رجال هم أبناؤه خالد ومحمد وبندر وسلطان وهم عزاؤنا بعده.
رحل الأمير وتعذبت برحيله الرياض التي عشقها وعشقته منذ ولادته إلى أن سكن في جوفها.
رحل أحد رموز الوطن.. إنه صاحب السمو الأمير سعد بن خالد بن محمد بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله.
ابنك..