| |
صندوق التفاح أحمد المؤذن
|
|
كان لا بد للصفقة أن تُحسم.. المساومة طويلة.. وكان ختامها خروج المحفظة من جيب الحاج محمد بصعوبة وعدم ثقة.. نقد البائع حقه وحمل الصندوق. يرسل خطوات متلاحقة تتعرَّج بين مسارات الأزقة في يوم رطب يمسح عرقه المتصبب ويجتهد في حفظ توازن الصندوق الخشبي، أعلى رأسه تنام غترة ملفوفة مصفرة ورثّة.. ملوحة العرق تتسلل، لم تغز عينيه المغبشتين حاملاً تعبه من سوق القرية بعد رفضه لخدمات سائق الأجرة. (الطريق طويلة يا حجي.. الله المعين شكراً لا نحتاج). الدروب قصيرة وتطوى مهما تلوت وتشعبت، ستطوى على أي حال ويصل للبيت، المهم ألا يركب ويدفع من جيبه لأحد وإلا تضاعف ثمن صندوق التفاح. وتلهث الخطوات متعبة ولا أحد يركن سيارته لينتشل حطام رجل عجوز ستيني عنيد، عبثاً يكافح لقطع مسافة طويلة.. لا يهم فمبررات الحاج محمد مختصرة وحاسمة ولا تقبل النقاش.. لا داعي للتبذير!! يحمل الصندوق ثم يدير رأسه نحو الطريق، لكن السيارات تنطلق بسرعة جنونية وتتجاهل وجوده.. ثقيلة محتويات الصندوق من التفاح المتعب والرخيص، لكن السوق جيدة بعد ما أفاض الوصف لزوجته عن رخص أسعارها وضرورة تكرار زيارتها. تزداد الشمس حرارة وهو على هجير الأسفلت وئيدة خطواته، يعصر فوطة صغيرة مشبَّعة بالعرق والإنهاك يتآكله ببطء.. الصندوق يتناقل والهواء في صدره يتثاقل ويمسح ما تبقى من إصرار على الوصول بتذكرة مشي مجانية، طبعاً لا داعي للتبذير، حيث تجاهل مرور حافلة النقل العام. يعزّي نفسه أن المشي مفيد ثم إنه مجرد قريتين سيخترق أزقتهما متوارياً عن الشمس يراوغ أشعتها في الظلال المحترقة.. لا يجدي الفرار ولا يمكن أن يتوقف.. كسب الوقت أفضل من راحة عابر، لكنها المسافات تطول ولا تقصر والرأس تذوب كقالب ثلج من قسوة الوهج المسلط بمكابرة وتحدٍ كاذب يستمر في دفع خطواته المثقلة بلا اكتراث لحالته المزرية. يطحنه التعب، تنقطع النعال البالية ويتبعثر اهتراؤها تفل الرقع القديمة ثم يتوقف، تأخذه الحيرة والحسرة على جثة النعال التي لفظت أنفاسها الأخيرة. يمد البصر، من بعيد سهم أحمر يطوي الطريق.. إنها سيارة رياضية تقترب وتقترب أكثر بصخب موسيقى غربية.. شحنة كبيرة من الأمل تغزو تجهم وجهه.. إيه.. ولد حلال يا رب يا كريم. يلوح القادم ويزعق مثل ديك منتوف الريش، تبطئ السيارة من سرعتها بعد أن تخطته، تعود أدراجها للخلف ويعلو الصخب ويتهلل وجه الحاج محمد فرحاً وهو يستكشف بعيون متفائلة شاباً يزين عينيه بنظارة وحشية يدعوه الركوب. خطوتان تفصلانه عن الفرج والفرار من قسوة هذا اليوم، تلمس أصابع يده المعروقة مقبض الباب الفضي.. فجأة تهب مثل الزوبعة، وتصرخ العجلات بعنف على سواد الأسفلت ويقذف هو والصندوق للخلف في قلب غمامة الغبار الهائج. ضحكات هستيرية مجنونة هي آخر ما سمع.. بات مكتوماً في وضع مضحك وبنعال تالفة وتراب يملأ صدره وعينيه.. لحظات رعب وغضب وخيبة ثم يصرخ الصندوق.. الصندوق.. أين الصندوق! يلتفت للصندوق في قلق وقد انقلب على وجهه متعفِّراً بالتراب، تفاح تالف ومغشوش.
|
|
|
| |
|