إعداد : يوسف بن محمد بن إبراهيم العتيق
قراءة: حنان بنت عبد العزيز آل سيف(*)
فن المقالة فن قديم حديث، يضرب بجذوره الراسخة في أعمق أعماق التاريخ، كما أنه يأخذ النصيب الأعلى، والقدح المعلى، من معارف وعلوم العصر الحديث، ولعل صلة المقالة القديمة بالمقالة الحديثة تتجلى في فن الرسائل الإخوانية الأدبية التي كان يتبادلها أدباء العصر القديم فيما بينهم، وأما المقالة الحديثة فقد امتطى صهوتها أدباء العصر الحديث كعميد الأدب العربي طه حسين، وفرح أنطون، وشكيب أرسلان، وأحمد أمين، وجبران خليل جبران، ومصطفى صادق الرافعي، والمنفلوطي، وعباس محمود العقاد، وميخائيل نعيمة وغيرهم جم وفير، وعدد كثير، من أدباء وعلماء وساسة وتاريخيين ومؤرخين، بل إن فن المقالة الحديثة له الفضل الكبير، والمعروف الكثير، على أدباء العصر الحديث في توفير مادة بحثية لمؤلفات نادرة، ومصنفات ثرية ثرّة مفيدة نافعة، فكتب طه حسين أصلها في المقام الأول مقالات كُتبت في صحف ذلك الزمان الأول أثناء طلائع عصر النهضة والعصر الحديث، ومن أمثلة كتبه (حديث الاثنين)، وهو عبارة عن مقالات أدبية بحتة كُتبت في إحدى الصحف المصرية وتحديداً في يوم الاثنين، وكذلك كتابه الآخر (حديث الأربعاء) وهو نظير سابقه وسلفه إلا أن مقالات الكتاب نُشرت في يوم الأربعاء، ولا يفوتني في هذه العجالة الإشارة إلى كتابه (من حديث الشعر والنثر) المتضمن لنفس الفكرة.
ولا ننسى عبقريات العقاد فهي في الأصل مقالات تمَّ جمعها بين دفتي كتاب، وأحمد أمين ليس منا ببعيد في كتابه الرائد (فيض الخاطر) والرافعي في (وحي القلم) وغيرهم كثير كثير ممن خاض غمار هذا الفج العميق.
وبين يديّ كتاب فريد، عنوانه (من بطون الكتب) في جزئه الأول، ومؤلفه الأستاذ، والكاتب يوسف بن محمد بن إبراهيم العتيق، - سدد الله خطه وخطوه وخطاه -، والكتاب في أصله مقالات، ويقع في (200) صفحة على وجه التقريب، وجُلِّد الكتاب بتجليد صقيل جميل، وبين يدي الطبعة الأولى لعام (1420هـ - 1999م).
وفي المقدمة إشارة إلى منهجية الكتاب، وكيفية سرد معلوماته، وإماطة اللثام عن غرو فوائده، ودرر فرائده، يقول الأستاذ المؤلف في مقدمته: (فهذه كلمات متفردة وفوائد منتقاة من بطون كتب أهل العلم، حرصت على أن يكون فيها الجديد المفيد للقارئ الكريم، وحرصت على أن تكون هذه الفوائد ركائز لطالب العلم يستعين بها في قراءته لكتب أهل العلم.
وقد قسمت هذا الكتاب قسمين:
الأول: المقالات وهي عبارة عن مقالات مطولة نُشر بعضها في أوقات مختلفة.
الثاني: فوائد مختصرة، وهي مما انتقيته من كتب أهل العلم، وقبل أن نخوض في حديثنا عن الكتاب والكاتب، فالكتاب يزخر بكمٍ من مصادر التراث القديمة، ومعارف العلم الحديثة، وإن دلّ هذا على شيء فهو دال على سعة الاطلاع.
دببتُ للمجد والساعون قد بلغوا |
جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا |
وكابدوا المجد حتى ملّ أكثرهم |
وعانق المجد من أوفى ومن صبرا |
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله |
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا |
والباحث العتيق يتمتع بذاكرة قوية جداً، وانتبهت لهذا عن طريق كثرة المراجع والمصادر المذكورة في الكتاب، ويخيّل لي أن المؤلف بعد ما يبحث وينقِّب عن مادته التي ينوي نشرها يحضِّر لذلك تحضيراً مكثفاً، وفي أثناء الكتابة تعن له فوائد، ومعلومات اقتبسها من خلال قراءات سابقة سالفة، ويبدو لي أن المؤلف - حفظه الله - يملك مكتبة حديثة متجددة تتسم بالتفرُّد والتميُّز والجودة والإجادة، لذا فهو رجل مشغوف بالكتب بجمعها واقتنائها والاستفادة منها.
وقد تجلت لي هذه الميزة من خلال معلومات الكتاب، ومقالاته خصوصاً في تلك المقالة الواردة تحت عنوان: (تحقيق المطبوع).
والمؤلف أخذ بقول ابن حزم - عليه رحمة الله وغفرانه - (وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر، التي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل عامل إلا في أحدها، وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتمه.. أو شيء مستغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتّبه، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه).
ومؤلفنا - حفظه الله - يحكي شيئاً بل أشياء من سيرة سلفنا الصالح، وسيرة علمائنا الأجلاء ويدعم كتابه بالحجة والبيّنة، ويقول في تعليله لهذا المسار ما نصه: (من تأمَّل في الكتب وجد الكثير من الكلمات والأقوال التي تشرح الصدر وتكمل العقل، وتشكل مخزوناً علمياً مهماً لطالب العلم عند الحاجة، وليكن في علمك أن تحسين كلامك بالنقول عن أهل العلم والفضل والتجربة مهم جداً، ومؤثر على الآخرين، فخصص بعض الوقت للقراءة في مثل هذه المواضيع، واعلم أن كتب التراجم والتاريخ وكتب المواعظ حافلة بالكثير من ذلك، ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض أصحاب كتب التراجم حينما يترجمون لأحد ممن أشتهر بمثل هذه الأقوال الحكيمة، فإنهم يوردون جملة من كلماته النافعة وتوجيهاته).. ويتجلى في الكتاب الحس الفقهي، والاتجاه الديني، وذلك في بدء الكتاب بالحديث المشهور الذي استهل به الإمام البخاري كتابه المشهور العظيم (الجامع الصحيح) ونص الحديث: ( إنما الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ويعلق الإمام البيهقي عليه من الله تعالى شآبيب الرحمة والغفران قائلاً: (وقد استعمله محمد بن إسماعيل - رحمه الله - فبدأ الجامع الصحيح بحديث الأعمال بالنيات).
ويتأسى مؤلف الكتاب الأستاذ العتيق بالإمام البخاري فيبدأ مؤلفه به، ويقول في بدء الكتاب (واستعملناه في هذا الكتاب فبدأنا به).
وهذه البداءة بحديث النيات جاءت من المؤلف رغبة في البركة والزيادة في الخير، حقق الله لمؤلفنا مناه ورجواه.
وفي الكتاب فوائد علمية، وفرائد معرفية ظهرت هذه الفوائد في حديث الكتاب جُله وكُله، وسأقتصر على ذكر فائدتين اثنتين:
الأولى: قال يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسم.
(أخرج هذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير - رحمه الله تعالى - الإمام مسلم في صحيحه، ولهذا الإخراج فائدة لطيفة، حيث إن الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - أخرج هذا الأثر في كتاب الصلاة من صحيحه، وكما هو ظاهر فليس بين هذا الأثر وموضوع الصلاة ترابط، فلِمَ أورد مسلم هذا الأثر في هذا الباب؟
للإجابة عن هذا السؤال، قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: جرت عادة الفضلاء بالسؤال عن إدخال مسلم هذه الحكاية عن يحيى مع أنه لا يذكر في كتابه إلا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم محضة مع أن هذه الحكاية لا تتعلَّق بأحاديث مواقيت الصلاة، فكيف أدخلها بينها؟
حكى القاضي عياض - رحمه الله تعالى - عن بعض الأئمة أنه قال سببه أن مسلماً - رحمه الله تعالى - أعجبه حسن سياق هذه الطرق التي ذكرها لحديث عبد الله بن عمرو، وكثرة فوائدها، وتلخيص مقاصدها، وما اشتملت عليه من الفوائد في الأحكام وغيرها، ولا نعلم أن أحداً شاركه فيها، فلما رأى ذلك أراد أن ينبه من رغب في تحصيل الرتبة التي ينال بها معرفة مثل هذا، فقال: طريقه أن يكثر اشتغاله وإتعابه جسمه في الاعتناء بتحصيل العلم هذا شرح ما حكاه القاضي).
الثانية: أن أبا علي صالح بن محمد بن عمرو الأسدي الحافظ والمحدث الكبير لقب بجزرة، وسبب هذا اللقب أنه أراد أن يقرأ كلمة (خرزة) فقرأها (جزرة) فأصبح هذا لقبه الذي اشتهر به.. وهذا العالم الكبير ترجم له الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء) وذكر هذه المعلومة الظريفة الطريفة.. ويقول عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني: (كان كثير المزاح، فكان يمشي مع رفيق له يلقب (الجمل) فمرّ جمل عليه جزو، فقال له رفيقه: ما هذا؟ قال: أنا عليك).
وعناوين الكتاب جميلة ندية ومنها: (مذاكرة الرجال تُلقح الألباب) و(من بركة العلم عزوه إلى قائله) و(القول الأنفع في الردع عن زيارة الموقع).
وفي الكتاب نقول ممتعة عن مشاهير أعياننا، وعظماء أفذاذنا، ومن ذلك ما قاله أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله تعالى - ما ناظرني رجل قط كان مفنناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني ذو فن واحد إلا غلبني في فنه ذلك.
وقول الإمام الجليل سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.
وقول ابن سعد في طبقاته: كان سعد بن عبادة في الجاهلية يكتب العربية، وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يحسن العوم والرمي، من أجل ذلك سُمي الكامل.
وكما أخذ الكتاب مأخذه من الجد، كان للطرفة الظريفة فيه مجال، ومن ذلك أن أحد الناس أراد أن ينتقص العالم النحوي نفطوية، فما وجد سبيلاً إلا عن طريق اسمه، وهو مركب من كلمتين نفط وويه، قال الذهبي - رحمه الله تعالى -: وكان محمد بن زيد الواسطي المتكلم يُؤذيه، وهجاه فقال:
والكتاب يدل عنوانه على مضمونه، فهو حصيلة قراءات منتظمة ومكثفة ومركّزة في لفيف وعديد من كتب العلم مثل كتب التراجم، وكتب الحديث، وكتب الأدب والتاريخ وغيرها، وحينما نتصفَّح الكتاب نجد كتباً لها قيمتها في المكتبة العربية التراثية، مثل طبقات ابن سعد، وسير أعلام النبلاء، والبخلاء، وفتاوى ابن تيمية، والدرر الكامنة، وتفسير الإمام الطبري، وميزان الاعتدال، وبدائع الفوائد وغيرها، حيث تُوحي هذه الكتب لنا بأن ثقافة المؤلف ثقافة عربية أصيلة تُوحي لي بسمات من شخصية مؤلف الكتاب كالجلد والصبر والهمة في التعامل مع أمثال هذه الكتب التراثية الدسمة، التي يخلو البعض منها من جانب الإمتاع والإيناس، كما تتجلى لي سمة أخرى هي طول النفس في تتبع المسألة البحثية في مظانها من كتب التراث، يقول مؤلف الكتاب: (كل مؤلف له في كتابه منهج وطريقة يسير عليها، والعلم بهذا المنهج مهم غاية الأهمية وبه يتسنى للقارئ الخروج بالفائدة المرجوة من هذا الكتاب، بل إن الكثير من العلماء والباحثين كتبوا مؤلفات قد تكون عامة في منهج أحد العلماء في الكتابة أو خاصة بمنهجه في أحد كتبه، وقد استفاد كثير من طلبة العلم من بعض الرسائل في هذا الباب من أبواب التأليف وبخاصة إذا كانت هذه الرسائل قائمة على الجرد والتتبع والمناقشة فهي تؤدي خدمة كثيرة للباحثين والمهتمين).
وفي الكتاب دعوات علمية جادة وجيدة وجديدة وفيها لفت أنظار الباحثين والدارسين من علماء ومفكرين إلى مباحث علمية حَرية بالبحث والتأمُّل والدراسة.
ومن محطات الكتاب الدعوية الحاثة على البحث والتمرُّس والتنقيب في كتب التراث ما يلي: (إنه من الواجب علينا أن نسير في خطين متوازيين، هما:
الأول: نشر تراث سلفنا المخطوط قدر الإمكان والتعاون على ذلك، ومحاولة توحيد الجهود، وعدم تشتيتها بتكرار إخراج الكتب التي سبق وأن خرجت، فعملية التنظيم والتنسيق بين ما خرج وما سيخرج مطلب في غاية الأهمية.
الثاني: محاولة تقويم ما خرج ونقده حتى يبقى المفيد، ويبحث في غير المفيد وأسبابه، ومن ثم القضاء عليه).
وفي الكتاب وقفات جميلة مثل الوقفة الخاصة بالقواعد الذهبية، التي يجب أن نطبقها أثناء شرائنا للكتب المصدرية والمرجعية، وهي وقفة مهمة تبيِّن المنهجية الدقيقة في عملية الشراء.
حفظ الله مؤلف الكتاب.. وما زال قلمه ثراً بالمعارف، مستفيضاً بالعلوم.
(*)عنوان المراسلة: ص.ب (54753)
|