الأديب الأريب الدكتور عبدالله محمد باشراحيل شاعر من الطراز الأول، وفي شعره نضج أدبي وسمو فكري وتألق شاعري، حباه الله تعالى قدرتين اثنتين، وموهبتين متميزتين، فهو يقول الشعر العمودي، وهو أيضاً يقول الشعر الحر المرسل، وبين يدي الآن ديوان المعنون له بالعنوان الآتي: (مُدن الغفلة) ويقع هذا الديوان في مائة وخمس وستين ورقة من القطع المتوسط، وجادت به أنامل المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وأمام ناظري الطبعة الأولى لعام (2003م)، ويحذو الشاعر في ديوانه هذا حذو فطاحلة الشعر العربي القديم، ولقصائده لغة شعرية تتكئ على شراك الواقعية والرومانسية، وموضوعات القصائد يتمخض عنها طموح شعري، وأمنية شاعرية إلى عالم فسيح رحيب عادل طاهر، يعيش فيه الشاعر وقد انتشى بعطر الحياة وهمه وهمته أن يرسم الابتسامة والفرحة على صفحات الوجوه، وأن يطهر هذا العالم من رذائل الأخلاق وسفاسف الخصال، يريد لهذا العالم أن يصفو من الحقد والحسد والكراهية والظلم والكبر والعصبيات.. وتأمل قوله وهو يعزف على قيثارة الشعر، وينشد أبياتاً حلوة جميلة وهي الآتية:
السيف قد صار بعد الغدر منثلما |
ونزف من يا سؤالي لم يعد ندما؟ |
ما أعدل النار تكوينا سواسية |
والظلم لما يزل غضاً وما هَرِما |
ماذا نقول لدهرٍ وهو يحقرنا |
يظننا من ذوات الأربع الغنما |
يستسلم الأمل البسام في وجل |
قد صار بعد زمان النصر منهزما |
ران السكون ولفّ الصمت أنفسنا |
كل يغني وليلى كانت النغما |
هذه الأبيات الشعرية لها دلالات فنية وتاريخية منبعثة من وجدانيات الشاعر، وهي دلالات لغوية عميقة تبتعد عن الهشاشة والسطحية، وتنساب متغلغلة في جذور اللغة الشعرية، وتتخلّل في أعمق أعماقها، لتترنم بالقيم العظمى، والمثل العليا، وتذوّق معي يا قارئي الكريم هذه المقتطفات والخطرات الشعرية، والتي يتردد صداها بين جنبي الديوان، ويختال بها منشئ القصيد، ويتباهى بها وجدان الشاعر ليقول:
ها قد هوى ذلك التمثال وا أسفي |
ريان بعد رحيل الليل كل خفي |
الموت والصمت والأجداث باكية |
أمّ القنابل بركان تفجر في |
أم الحضارات من بغداد للنجف |
صرح الرشيد قد انهارت معالمه |
هذا العراق جحيم القهر غادره |
فهل سيأمن بعد اليوم للصدف |
نهر الفرات سقى الأحقاب من قِدم |
(بغداد) لما يزل عذباً لمغترف |
هُبّي إلى صحوة الأيام وابتدعي |
عهداً وليداً رفيعاً جدّ مختلف |
بغداد ها قد هوى التمثال منحطماً |
فاستمطري الغيث بعد الجدب والتلف |
ولعلك أيها القارئ المتذوّق لاحظت معي أن معاني هذه القصيدة والمعنون لها بالتمثال تحمل ذكرى الأمجاد العربية والإسلامية في عهد الخليفة العباسي (هارون الرشيد)، وهي معانٍ تاريخية عميقة تحفل بمرتكزات لفظية قوية، ودلالات صوتية مؤثِّرة، وخيالات معنوية رحبة، وظّفت في رسم عناصر المشهد الجمالية، مزاوجة بينها وبين رسم المكان ووصف معالمه، وبهذا اتسعت الصورة الفنية لمحيط القصيدة الخارجي وملامحه بحيث أنها شملت أحداثاً جزئية كثيرة كالزمن والحركة والحدث والشخصية، والأبيات تواكب أحداث عصرنا الحالي والتي تدور في فلك العراق، وهي تصور ما جرى للشعب العراقي من أحداث، وما ألمّ به من فاجعات، وذلك بالإشارة إلى طاغية العراق (صدام حسين) وما جرَّه على العراقيين خاصة، وعلى الشعوب العربية عامة، من جراء حرب الخليج على اعتبارها الحدث المجلجل الذي اهتز له عنفوان التاريخ، وفي القصية الآنفة الذكر إبداع راقٍ يتكئ على أطلالنا وتراثنا، ويسير ببطولاتنا إلى قمة المجد التليد، وأوج الحضارة الباسقة، وفيها تصوير دقيق جداً لمشاعر الشاعر عبد الله باشراحيل حين اصطدمت أحاسيسه النفسية، وخلجاته الوجدانية، وطموحاته الذاتية بأرض الواقع المر للشعب العراقي، فلملم الشاعر نفسه واكتفى بالغد المشرق الباسم الذي ينتظره العراق بواسع الصبر، وشديد التصبّر، اكتفى بأشعة هذا الطموح المقبل، والسعد المنتظر، دوناً عن حياة الكذب والخديعة والشقاء، ونجم عن هذا الاختيار توقد القريحة الشعرية عند الشاعر، ونجم عن هذا التوقد التوافق الشديد بين واقع العراق الذاتي، وبين حلمها النفسي، هذا الواقع المليء بالأحزان والأشجان وموت الضمائر وخور الهمم:
والضارعون من الآلام في رهبٍ |
والقابضون على الآمال في ترف |
لا دمعة في مآق العين تمسحها |
أيدي الكماة ولا صوت يقول قفي |
وهنا سؤال يطرح نفسه وهو: ما الملهم لقريحة الشاعر الفذة في إنتاجه هذا؟ وجواب هذا يعود إلى تلك المقدمة الثرة الثرية التي صدر بها الشاعر الأستاذ (جورج جرداق) ناصية الديوان والتي جاء فيها: (يشعر قارئ هذا الديوان وغيره من دواوين باشراحيل، بأن فرحة هذا الشاعر بالحياة لا تكون إلا بأن يرى الفرحة في وجوه الناس جميعاً، من هنا كانت ثورته على الكذب والحقد والجشع والقهر والقمع وإفساد الضمائر، وعبادة وحش المال، نعم إن لهذا الشاعر الكريم هوية واحدة هي هوية الإنسان، ووطناً واحداً هو العالم، وفي نطاق هذه الهوية الجامعة تكون الهوية الذاتية، وفي نطاق هذا العالم الواسع تقع الخصوصية الوطنية، هذه الحالة الإنسانية العامة التي يحياها الشاعر عبدالله باشراحيل وينقلها إلى شعره بمهارة ملحوظة، والتي تدل على ثنائية الحلم والواقع في الطبيعة الإنسانية الصافية، تدفعنا تلقائياً إلى التفاؤل بخير الوجود وإلى الإيمان بخيرية الحياة في غد الناس.)
ولك أيها القارئ أن تتلمس خطى سياحة أدبية شعرية بين قصائد الديوان، وإن كانت سياحتي عجلى سريعة إلا أني أدركت من خلالها الإبداع الشعري للأديب الشاعر (عبدالله محمد باشراحيل) وما يتميّز به من قدرات لغوية، وتأملات سحرية شعرية.
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف عنوان المراسلة: ص.ب (54753) الرياض (11524).
|