من أعظم نعم الله علينا نعمة العقل، التي كرّمنا الله بها على سائر مخلوقاته، والعقل هو الفهم والإدراك لحقائق الأمور وحسن التدبير، وقد أمرنا الله عز وجل باستخدامه بالتفكير والتأمل، والاستفادة منه في شؤون الحياة الدنيا قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الرعد3، وقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} البقرة، 242، وأعظم ثروة حقيقية يمتلكها الإنسان هي ثروة العقل، فبه يسمو ويرتفع، وبه يميّز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، والنافع والضار، وبه تعرف الفضيلة من الرذيلة، وبه يعبد الله على بصيرة، وقد قيل (إنسان بلا عقل تمثال بلا روح)، وقال الشاعر:
المرء بالعقل مثل القوس بالوتر |
إنْ فاتها وَتَرٌ عُدَّت من الخشب |
ولهذا من رُفِع عنه العقل - بغير إرادته - فهو معذور غير محاسب، وأجمل ما في العقل إرشاده ودلالته للإيمان بالله وحده لا شريك له وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ولهذا ذمّ الله عز وجل الأقوام الذين لا يعقلون ولا يتدبرون ولا يستفيدون من عقولهم في الإيمان به وبيّن مصيرهم في الآخرة فقال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أصحاب السَّعِيرِ) الملك10 وقال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) الأنفال22، فمهما أوتي الإنسان من علم ومعرفة لا توصله للإيمان بالله وحده لا شريك له وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ويتبع ما جاء به فليس بعاقل، وكان عقله وبالاً عليه.
ومع أن الله عز وجل أمرنا باستخدام العقل إلا أنه نهانا عن إقحامه فيما لا يقدر على استيعابه وفوق طاقته، وخارج حدوده، فلكل شيء حدود، وكذا العقل له حدود متى ما حاول أن يتجاوزها وقع في المحظور، واشتغل بما لا يقدر على إدراكه، وكما قيل: إنَّ أروع إنجاز للعقل هو أن نرى أنَّ هناك حدوداً للعقل، فهناك خطوط حمراء لا يستطيع أن يتجاوزها العقل، ومهما خاض فيها فلن يصل إلى نتيجة، وكانت نهايته الشقاء والتعب.
ومن أعظم ما وقع به بعض الناس هذه الأيام تقديم عقولهم على النصوص الشرعية، وتحكيم العقل قبل النص الشرعي، وهذا ما جعل بعض الكتّاب يستدرك على العلماء لعدم فهمهم للنصوص وتقديم عقولهم، والبعض الآخر يشكك في بعض الأحكام الشرعية ويردها، والبعض الآخر أشغل نفسه بضرورة معرفة الحكمة لكل أمر شرعي وهو غير مطالب بذلك، وصدق عليهم قول الشاعر:
وقول الشاعر:
قد تنكر العينُ ضوء الشمس من رمدٍ |
وينكر الفمّ طعم الماءِ من سقم |
فالأصل في شرعنا عدم تقديم العقول على النصوص، فالعقل تابعٌ والنصُّ الشرعي متبوع، والنصّ الشرعي حاكمٌ والعقل محكوم، وورد في متعة الحديث قول راشد الجلعود: (الإسلام لا يخالف العقل، ولكنّه لا يرضى بتحكيمه)، وقول الشاعر:
علم العليم وعقل العاقل اختلفا |
أيُّ الذي منهما قد أحرز الشرفا |
فالعلم قال أنا أحرزت غايتهُ |
والعقل قال أنا الرحمن بي عرفا |
فأفصح العلم إفصاحا وقال لهُ |
بأيِّنا الله في فرقانه اتصفا |
فبان للعقل أن العلمَ سيدُهُ |
فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا |
فمتى عرف الإنسان أن للعقل حدوداً لا يتجاوزها سعد بنعمة العقل.
malqwehes@gmail.com |