| |
رؤية في زواج المسيار الجوهرة آل جهجاه (*)
|
|
كانت الحلقة المخصصة من برنامج (دوائر) ل(زواج المسيار) مساء الجمعة 14 رمضان على قناة (الإخبارية) السعودية محورًا لمتابعة كثيرين وكثيرات في بثّها الأول وإعاداتها الثلاث اللاحقة، بل كانت منطلَقًا لإعادة نظرتهم للموضوع بجدية ومسؤولية، ولا سيما أن شهر رمضان يُحيي في قلوب الناس وعقولهم خيرا كثيرا يتميز عن غيره من الأشهر؛ لما فيه من محاولة حثيثة للإمساك عن شهوات النفس والعقل والجسد ما استطاع الإنسان المخلص إلى ذلك سبيلا. وقد كان من عوامل الجذب لمتابعة الموضوع: أسلوب ضيف الحلقة فضيلة الشيخ الدكتور: (عبد العزيز بن إبراهيم العسكر)، الأستاذ المشارك بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الذي يمزج مزجًا متساويا بين المعالجة الشرعية التأصيلية، والرؤية الإنسانية المتغلغلة في واقع شرائح المجتمع، ونقاوة العبارة باختيار الألفاظ الشريفة التي تُعبّر عن المعاني المرذولة دون إثارة ظلالها السلبية في النفس والذهن، والفكاهة التي تزيلُ كثيرًا من الوحشة من الحق وقسوة القلب التي قد تحول دون شفافية التفاعل مع الطرح الموضوعي. وكذلك أُسلوب مُقدِّم البرنامج الأستاذ: (غنّام المريخي) - وفقه الله-، الذي يتّسم بالجدية، والتأمل، والاحترام للقضية، وللضيف، وللمشاهِد، بعيدًا عن الاستفزاز أو العصف بهالة الإثارة التي تُؤتي أُكُلاً سلبية على الطروحات الموضوعية للقضايا ذات الخطر. وليس هذا بغريب على غِراس الإعلام السعودي الجديدة التي تقدم خبرات ومهارات تُرضي المشاهد وتجذبه للمشاركة الفكرية والعملية، انطلاقا من الهم الواقعي الواحد والسعي الواحد للإصلاح العام والإعمار الذي ينطلق من الفرد باتجاه المجتمع فالبلاد بعامة. تركّز الطرح على نقاط مهمة مرتبة ترتيبا منهجيا؛ حيث انطلقت من: المفهوم السائد (حاليا)؟ لزواج المسيار، ثم الموقف الشرعي المعلَن منه وتقويمه، ثم أسباب الإقبال على هذا الزواج: المعلنة وغير المعلنة، ثم مخاطره على الفرد والمجتمع، وأخيرًا الحل الواقعي. فيما يتصل بالمفهوم الحالي، فزواج المسيار: زواج سري غير مُعلَن من الطرفين إلا في أضيق نطاق، يتخفف فيه الرجل من جميع المسؤوليات باستثناء تلبية داعي الرغبة. والمفهوم يُعطي المتأمل الحكم الصحيح على هذا الزواج، فالسرية ضد الإعلان المتعارف عليه في أمر الزواج الشرعي، بل إن هذه السرية تقترن عند البعض بعقوبة الطلاق في حال كشفها، والسرية مُؤكِّدٌ لنية الطلاق التي ليس لها ورقة شرعية تثبتها، والتي -قبل كل شيء- تسبق الزواج نفسه، وهذا هو الجامع بينه وبين زواج المتعة، غير أن زواج المتعة مُعلَن، وهذا مستور، وزواج المتعة محرم، وزواج المسيار لمَّا يُحرّم للآن! يقود المفهوم لمراجعة الموقف الشرعي الذي يقوم على فتوى خاصة كانت إجابة لأحد العلماء عن سؤال أحد الأشخاص، وللأسف عُمِّمت وجُعلت أساسا؛ وكذلك فتوى المجمع الفقهي الذي أجاز صورة العقد، ولم يضبط الممارسة، وهي أساس الإشكال!! والذي ينبغي الالتفات إليه هنا هو ضرورة التأصيل الشرعي الصحيح الذي ينظر للأساس، ولما ينتهي إليه وينتج منه، ولما يتخلله ويسكن فيه؛ بالإضافة إلى ضرورة الأخذ بسُنّة (التدافع الكونيّ) التي قال الله تعالى فيها: {ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لفسَدت الأرضُ ولكنَّ الله ذُو فضلٍ على العالمين} (البقرة: 251). فبعض العلماء يجتهدون في الأمر، وقد يتبيّن مع الزمن، وانتشار الممارسة السلبية، أن حاصل هذا الاجتهاد يُخالف المصلحة الخاصة والمصلحة العامة مما يدعو العلماء الآخرين إلى تقويمه الملحّ، وعدم تركه؛ سعيًا لما فيه الخير والصلاح. وإن الملحوظ من أغلب الناس -إلا مَن رحم الله- تخففهم من مسؤوليات الحياة الأسرية الصغرى والكُبرى؛ زيادةً في اكتناز مُتع الحياة، ومن هنا تنشأ أسباب الإقبال على زواج المسيار؛ حيث يتعلل الأكثرية بأسبابٍ مثل: غلاء المهور، والخوف من الزوجة الأولى، وصعوبة إيجاد الشريك المناسب أو الشريكة المناسبة برضا الأهل من الطرفين، والبحث عن الاستقرار بحرية الاختيار... إلخ من أسباب مُتكلَّفة، القول بها غير مُوفَّقٍ في دعم شرعية هذا الزواج، ودعم النظرة إليه على أنه حلّ لمشاكل العنوسة في المجتمع، ولاسيما أن 90% أو 95% من حالات هذا الزواج تنتهي بطلاق سريع يُعدم أيّ قول بمقاصد الاستقرار والسكن والراحة!! قد يكون من أسباب انتشار هذا الزواج تلك الضغوط الاجتماعية القوية على الفتاة في حال عدم زواجها بغض النظر عن أسباب عدم الزواج (قد تكون ماثلة في عدم تقدّم أحد للفتاة، أو عدم مناسبة الرجل الخاطب شرعيا، أو عراقيل الأهل وتقاليدهم عند الطرفين... إلخ)، وملازمة وصف (العانس) لها بكل ما فيه من مخزون سلبي ساخر يُشعر أي فتاة بأنها فرد من شريحة منبوذة أو -على الأقل- محصورة بسياج ما داخل المجتمع، وهذا يجعلها تندفع نحو التضحية بالاستقرار، والكرامة، والحقوق النفسية والجسدية والشرعية؛ لتشعر برضا داخلي من قبل مجتمعها عليها!! هذا في مقابل نظرة أُخرى استفزازية وفيها نصيبها من الدونية التي ليست في مكانها أيضا، وذلك حين ترضى الفتاة بزواج شرعي كامل مُعلَن من متزوّج، وتكون الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، فيكثر التصريح أو التلميح بأنها ليس لها كرامة، ومستعجلة على الزواج لكي تُوصَف بأنها متزوجة فقط ، وغير هذا من أنواع الأذى النفسي الذي يمكن أن تتعرض له، فيجعلها تُحجم عن الزواج الشرعي المعلَن، وترضى بالمستور! وإن انتهى الدكتور (العسكر) إلى أن التعدد هو الحل بشأن المتزوجين، وتيسير الزواج بشأن غير المتزوجين، فإن ما يبدو لي هو أن مجتمعنا بفئاته المختلفة لا يسعى سعيا جادًّا لحل مشكلات الزواج بصورةٍ تحفظ قداسة هذا الرابط؛ فأمام الجهود الوطنية والمؤسساتية والشخصية لتيسير زواج الشباب، والتكفل بجمعهم بالحلال بما يناسب الطرفين، وتحمُّل نفقات الزواج، وتأمين ما يلحقه من معيشة مادية ونفسية واجتماعية، وأمام تغييبنا شبه الكامل للأساس التربوي للتعدد الزوجي الحلال المعلَن في ثقافة الفتى والفتاة منذ الصغر، وفي سن اليفاعة، نجد بعض أفراد هذا المجتمع يفتحون أبوابًا يصعب سدّها بما يرضي الله ويحفظ كرامة الإنسان وأمنه النفسي والاجتماعي، فكم من الأطفال الذين خلّفهم زواج المسيار، وكم من رجل بات لا يعرف معنى الاستقرار الزوجي، ولا الثقة الزوجية، ولا الأمل الزوجي، ولا المسؤولية الزوجية التي لهذا لذتها الخاصة.. حتى وإن تزوج زواجا شرعيا معلنا مستقرا لاحقا!! وكم من امرأة حرمت نفسها تكوين أسرة مستقرة بعد تجربة أو اثنتين من تجارب زواج المسيار!!... وأمور أخرى ما أغنى المجتمع عنها، وهو يحاول ضبط الأمن الاجتماعي والنفسي والفكري لأبنائه وبناته!! لقد كشف الحوار عن مخاطر كثيرة تستنزف المجتمع؛ فمَن يتعلل بالخوف من الزوجة الأولى يفتقر إلى الوعي بمفهوم الخوف الصحيح والسليم، فكيف يَصدق خوفُه من غضبتها عليه، ومن طلبها للانفصال عنه إن تزوج بأخرى علانيةً، وهو لا يخاف عليها صحيا بما قد يحمله إليها من أمراض في جولات مسياره، ولا على المجتمع الذي قد يزيد عدد أفراده المولودين بأمراض صعبة، ولا على المرأة الأخرى التي يستحلها لأسبوع أو بضعة أيام، وفوق هذا.. لا يخاف بصدق من الله الذي أكرمنا بخلقنا خلقا مستويًا، وشرع لنا ما يضمن سعادتنا واستقرارنا إن التزمنا به بعد أن نفقهه فقهًا صحيحا! فالنظافة في السلوك والمَعشر مُقدَّمةٌ على النظافة في البدن والمأكل، وهي موطن التميُّز؛ لأنها تقوم على ضبط القلب والرغبات خوفًا من الله تعالى الذي يرقب الظاهرَ وما يخفى، وليست تقوم على الخوف من البشر الذين ليس لهم إلا ظاهر هذا الإنسان ؟؟!! أيضا ضعف رغبة المجتمع في حل المشكل الخاص بين الزوجين، والمشكل العام في المجتمع من جهة ما يتصل بقضايا الزواج وشروطه التي يخرج بعضها عما يقبله الشرع ويُجيزه، فالمجتمع قد ينتفض لزواج الرجل من غير مستواه أو قبيلته أو ما يسمونه (التكافؤ في النسب) وزواجه موفَّقٌ مستقرٌّ وهو كُفؤٌ بدينه وأخلاقه وعمله وصدق نيّته في الزواج المستقر، ولا ينتفض أمام رمي النساء أنفسهن في محرقة زواج المسيار، وهنّ بناتهم وأخواتهم!! هذه سلبية في منهج تعامل المجتمع مع قضاياه وكيفية تصنيفه لخطرها، وسُبل معالجتها، وأوانها؛ لأن بعض القضايا لا ينفع معها التراخي؛ لأنها تكبر خطرًا، ولا سيما أن زواج المسيار يصرف عن الزواج الشرعي، ويصرف عن مقاصده الشرعية السامية من: السكن النفسي، والإحصان النفسي والجسدي، وإنتاج الذرية الطيبة، ودفع عجلة المجتمع للأمام بصحة لبناته وقوة مادتها. أيضا، كشف اللقاء عن مشكلة أخرى، وهي ضعف الحوار بين الزوجين لإعادة تأهيل حياتهما الزوجية، مما يجعل الزوج يُفضِّل سلوك هذا الطريق، ويفتح على زوجته بابا لا يقلّ خطرا أيضًا عندما تشعر أو تعرف أنه يتّخذ أخدانا - تحت ستار زواج المسيار- يُريق صهيل رغباته عندهن، مما قد يؤدي لانحرافها هي الأخرى -لا قدّر الله-، ومَن يطّلعون على وضع أحدهما سيتخذون منه ركيزة لقرارهم المستقبلي؛ فأصدقاء الزوج أو أقاربه أو حتى أبنائه قد يتأثرون بتوجهه ويتخذونه عذرًا لسلوك الطريق نفسه، حتى وإن لم يكونوا من المتزوجين من باب توفير التجربة، ومثل ذلك صديقات الزوجة وقريباتها وبناتها!! قضايا كثيرة فتّقها حوار الحلقة والمداخلات التي قاربت العشر على مدى ساعة ونصف لم تكن لتكفي لتغطية المحاور كاملة، لكنها -على الأقل- فتحت أعيُننا على مرض نصنعه بأيدينا، وننخر به أسسنا وقواعدنا، ونزيد به الشكوى من القلق النفسي، والاضطراب، والشعور بالغربة الاجتماعية، والتوجه للتعلّق بالنموذج الغربي المُتحلّل من كثيرٍ من أواصر الرحم والقُربى والاستقرار، بوصفه حلاًّ لهذه المشكلات، وليس سوى حطبٍ أصيل لإيقاد النار التي تسعى لترك أمان المجتمع هشيما مترمّدا!!
(*) محاضرة في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ذكر وصف (حاليا)؛ للاحتراز من خلط القارئ بين مفهوم زواج المسيار المقصود هنا، وبين ما عُرف قديما في بعض المناطق بزواج المسيار، وهو زواج شرعي كامل يضطر الزوج إليه في سفره وإقامته الطويلة في بلدٍ أو منطقة غير التي يعيش فيها، وزواجه مُعلَن، والزوجة لها كامل الحقوق الزوجية الشرعية.
|
|
|
| |
|