| |
الأدب الإسلامي بين خطأ الفهم.. وفهم الخطأ..! (2-2) د. حسن بن فهد الهويمل
|
|
ومشروعية (الأدب الإسلامي) مكتسبة بالنص القرآني، إذ فرقت آيات الشعراء بين شعراء الهداية وشعراء الغواية، ولو كان الإبداع القولي حصراً على الشعراء، لكان بالإمكان استبدال مصطلح (الأدب الإسلامي) بمصطلح (شعراء الهداية). وإذا كان القرآن وصحيح السنة وأدب السلف الصالح والنقد الأخلاقي من عهد (أفلاطون) إلى يومنا هذا كلها تؤكد على القول السديد والكلم الطيب وتكره الجهر بالسوء وتصف الكلمة الطيبة بالثبات والسموق والنفع، والكلمة الخبيثة بالاجتثاث وعدم القرار، ولا تمنع من الإمتاع والخيال والمجاز والجلال والجمال، فإن هذه الرغبات بحاجة إلى مصطلح يجمع شتاتها، ويشبع ذكرها و(الأدب العربي) بوصفه جماع كل المصطلحات الناسلة منه، بما فيها (الأدب الإسلامي) ليس منقطعاً للكلمة الطيبة، إذ وسع كل الاتجاهات، فكان أدب مجون وأدب انحراف وأدب (أيديولوجيات) متصارعة، ومع اتساعه للمتناقضات فقد فارقه الحداثيون والماركسيون والوجوديون والداديون، واتخذوا لهم مصطلحات لم يعترض على مشروعيتها أحد. إذ لم نسمع أحدا يعترض على مصطلح (الأدب الوجودي) أو (الأدب الماركسي) أو (الأدب الحداثي)، وهي مصطلحات قائمة ومتداولة. وإن كان ثمة اختلاف فيما بينهم فإنه قائم حول المفهوم والفن وطرائق الأداء، وليس دائراً حول المشروعية، كما هو بالنسبة للأدب الإسلامي. والذين يعترضون على مشروعية (الأدب الإسلامي) يركنون إلى حجج لا يقوم بها الاحتجاج ولا تثبت أمام البحث العلمي مثل: - حداثة المصطلح. - واستفحال التجزيئية. - ومعادلته بالأدب الكافر. - وتقييد حرية المبدع. - والجنوح إلى الموضوعية. والتماس الحق يسقط هذه الحجج: - ف(حداثة المصطلح) ترد بما ينسل من مصطلحات في كل لحظة، وما أحد تحفظ أو تذمر، متى استطاع المصطلح أن يكون جامعا مانعا متحققا في إطاره مقصده متوفرا على مادته. وفوضوية الإنشاء للمصطلحات، أو ترجمتها أو تعريبها أو نقلها في كافة المشاهد إشكالية لا يعرف مداها إلا الراسخون في العلم. - وأما (التجزيئية) فالأدب الإسلامي يواكب مسميات متعددة، وكلمة (أدب) بوصفها جزءا من المصطلح، لا بد أن توصف أو تضاف إلى الزمان أو المكان أو اللغة أو الموضوع أو السياسة أو الفئة. فيقال: الأدب العباسي والمصري والحداثي والسياسي والجاهلي والصوفي. وما أحد امتعض أو تردد في قبول تلك الإضافات والصفات. - وأما معضلة (الثنائية) أو المعادلة بين الإسلام والكفر، فإن مصطلح (الأدب الإسلامي) لا يعادله (الأدب الكافر) ليس غير، بمعنى أن ما سواه لا يكون إلا أدباً كافراً. ولو أخذنا بهذه الثنائية الضيقة لكان لزاما علينا أن نقول: إن إطلاق كلمة الصديق على (أبي بكر) والفاروق على (عمر) تقضي بانتزاعها جملة من سائر الصحابة، وما أحد من العقلاء تصور ذلك، والقول ب(الأدب الإسلامي) لا يعني بالضرورة القول بالمعادل المناقض، وإنما يعني القول بالمعادل المتخلف عن تلك السمة، كأدب المجون والخمريات والانحراف الفكري. ف(الطائيون) كرماء يفضلهم (حاتم)، والمخزوميون شجعان يفوقهم (خالد)، والتميز لا يقابل بالمناقض، وإنما يقابل بالناقص عن التمام. وأما القول بالحدّ من (حرية المبدع) فإن لكل نحلة أو ملة حرية، لا تكون لغيرها، والحرية يحكمها الانتماء، ولهذا لا تكون الحرية واحدة عند (الليبراليين) و(الديمقراطيين) و(المسلمين). الحرية في الإسلام منضبطة، ومحكومة بسلطات ثلاث (الدين) و(السياسة) و(المجتمع) وهي حرية سوية تستجيب للفطر السليمة، وإذا قيدت الحرية في الإسلام، وأطلقت فيما سواه، بحيث تشارف دركات البهيمية فإن البحث في شأنها لا يكون في إطار (الأدب الإسلامي)، وإنما يكون في إطار الفكر الإسلامي، وكل من أشرب في قلبه حب القيم والفضائل لم يعد يتعثر بضوابط الحرية، لأن كل إناء بما فيه ينضح، وحملة الكلمة الخبيثة لا حجة لهم في ضوابط الحرية. إن التهتك والمجون والانحراف كسب، وليس جبلة، فالمولود يولد على الفطرة، والبيئات بكل تنوعها هي التي تضل أو تهدي سواء السبيل. والمبدع الملتزم كالنحلة لا تعطي إلا عسلا لا تتكلف مجَّه، والمبدع (اللامنتمي) كالذبابة لا تفرز إلا وباء لا تتكلف إبرازه. و(الحرية) وسط هذه المرافعات كالثور يُضرب لمّا عافت البقر. وإذا كانت الصلاة راحة للمؤمن، فإنها ثقيلة على من دونه، إن الحرية مكفولة للملتزمين دون الملزمين، ولهذا فالإلزام (الماركسي) أفسد الفن، والالتزام الإسلامي أصلحه. وكم هو الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} وتنوع خصوم الأدب، وتفرقهم بين المسمى والأداء والمشروعية والمفهومية يعد خيارات المواجهة، وأنا هنا - تمسكا بالمنهجية والموضوعية - لا يعنيني المتحفظ على مفردات الإسلام في إطار موقفه الرافض للأسلمة كلها، فالخصوم إما: خصوم رافضون للإسلام، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، يريدون عزل الدين عن الحياة استجابة للعلمنة الشاملة، أو هم خصوم متأولون، لا يتجاوزون بخصامهم حدود ما أنزل الله، وداؤهم التأول المفضول أو الناقل المتقوِّل، وجدلي مع هؤلاء لاتساع القواسم المشتركة، فالأدب الإسلامي مفردة، إذا عورضت بوصفها مصطلحاً، فإنها قد لا تعارض بوصفها ممارسة، فمعلوم أن طائفة من خصوم المصطلح لا يعترضون على إشاعة الكلمة الطيبة التي هي إكسير المصطلح وشأنه كله، ولكنهم يعترضون على إحداث المصطلح لما يخشون من انعكاس أثره على الإبداع أو إيضاعه في التفريق بين أدباء الأمة ومبدعيها، وقريب من أولئك من يحمِّلون المبادئ جرائر المطبقين، والمصطلح بوصفه من المبادئ بريء من أخطاء ذويه الذين لا يحسنون الفهم، ولا يتقنون الأداء، ويحاولون تعويض ضعفهم بالانتماء لهذا المذهب، ومقتضى المصطلح لا يسعف الضعفاء منهم، متى كان في أساسه مركبا من مصطلحين هما: - الأدب. - والإسلام. والأدبية هنا مقدمة على الإسلامية، لأهمية النوع القولي، فهي البوابة الأولى، ولا يمكن تحقق مراد المصطلح حتى يكون الإبداع في أوج تألقه، متوفراً على شرط الفن وضابط اللغة وخصوبة الخيال وأدبية السرد وشعرية النظم. والمشاهد النقدية الحديثة تركز على (الأدبية) و(الشعرية)، وبتفحص مقتضى الأدب الإسلامي نجده أكثر تركيزاً على (الشعرية) و(الأدبية) بمفهومها التراثي والمعاصر. ولهذا فلا مكان للضعفاء الذين لا يحملون موهبة، ولا يستبطنون موقفا، ولا يملكون حساً، ولا يضمرون هماً. والكلمة الطيبة وحدها لا تمنح التألق والتفوق، ما لم تكن متسمة بسمة الإبداع بكل متطلباته التراثية والمعاصرة. والمصاب بداء العهر والكفر يتمسك بحقه الأدبي وتألقه الإبداعي، ومن حقه أن يتمسك، وواجبنا أن نقبل بهذا التمسك، إذ (لا تزر وازرة وزر أخرى). فشاعر متهتك ك(القباني) يفوق بشاعريته مئات الشعراء الملتزمين، لا يجوز لناقد أن يذوده عن قمة الشعر العربي، وروائي ك(محفوظ) يقف على قمة الرواية العالمية بكل تخلياته وانحرافاته، لا يمكن أن يسلب حقه الفني تحت أي شعار. والمتلقي الواعي يعرف أن (الأدب الإسلامي) يعطي الحق في شرف اللفظ، ويحاسب على الإخفاق في شرف المعنى، وينظر إلى المخالفين على ضوء منازعهم، وإذ لا نزكي على الله أحدا، فإن احتمال الكفر والإلحاد والردة لا تخول المفكر المستبرئ لدينه وعرضه أن يصم أحدا بصفة مغلّظة، وإن قال كلمة الكفر في شعره أو في سرده، فتكفير المعين عند العلماء المحققين له ضوابطه وشروطه، وهو من اختصاص الفقهاء، وليس من اختصاص النقاد، دور الناقد أن يرفض الانحراف والإسفاف، وإذا لزم الأمر إصدار الحكم الشرعي على المخالف وجب سؤال أهل الذكر، والأسلم والأحكم أن يكون حكما مؤسساتيا لا فتوى فردية، ولا سيما أن حكم المرتد قضية خلافية لدى العلماء. والتخلي عن الشروط والضوابط في إصدار الأحكام على الجماعة أو المعين أدت إلى مواجهات دموية حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم. ومع كل هذه التحفظات فإن الاحتفاء بالمنحرفين فكرا، أو الساقطين أخلاقا من خلال إبداعاتهم أو تنظيرهم عند هلاكهم أو غيابهم، ونبذ الرأي العام لهم، يعد خروجا على النسق وتغريدا مؤذيا خارج السرب، والأديب الإسلامي يفرق بين التألق والتفوق الفني، والسقوط الأخلاقي. وما قدمت بين يدي حديثي من تحفظات إلا لعلمي أن هناك من يحلو له خلط الأوراق والمزايدة الرخيصة، فالاختلاف مهما أوغل في القطيعة لا يمنح الحق المطلق لطائفة دون أخرى، ومتى حمي وطيس الجدل، واحتدمت المشاعر، وجب الرد إلى المرجعية المعتبرة لدى كل الأطراف، ومتى لم يكن هناك اتفاق على مرجعية فلا مجال للحوار. والقبول بالاختلاف والتحفظ على احتكار الحقيقة والحق، لا يعني إطلاق الأمر بحيث يمتد الجدل إلى ثوابت الدين. أعرف جيدا أن المشاهد الفكرية لم تصل بعد إلى تحديد جامع مانع للثوابت والمتغيرات، ولكن القلوب السليمة تعرف حدود ما أنزل الله، ولا يمكن أن تمضي مع المميِّعين الذي يجعلون كل شيء قابلاً للمساءلة والشك. فالحقيقة والحق في النهاية محتكران للنص القطعي الدلالة والثبوت، والاختلاف مقبول حين يكون حول مفهوم النص واحتماله للتأويلات. أما حين يكون النص قطعي الدلالة والثبوت، فلا اجتهاد ولا اختلاف، ولهذا قال العلماء الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، والنص عند الأصوليين يختلف عن النص عند الألسنيين، فهو عند الألسنيين مطلق القول، وهو عند الأصوليين القول القطعي الدلالة والثبوت، النص البرهاني وليس الدليل الاحتمالي. وجملة القول أن الأدب الإسلامي هو (التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي)، ليست له آلية فنية تختلف عن آلية الأدب العربي، وليست له فنيات تفارق ما اتفق عليه أساطين النقد العربي في القديم والحديث، له تحفظ وله اعتراض، تحفظ على كل مساس بالأسس والضوابط اللغوية والفنية، واعتراض على كل سقوط أخلاقي أو انحراف فكري يرفض تمييع الإسلام، وتلميع الطعام، ويعترض على المسخ، ويؤكد على الهوية والخصوصية والندية، يرفض النفاق والشقاق وسوء الأخلاق، ومعتصر المختصر أنه معني بإشاعة الكلمة الطيبة وإجهاض الكلمة الخبيثة. والنقد الإسلامي من وراء ذلك يرود في المقدمة ويحمي الساقة. آليته ومنهجه آلية النقد العربي ومنهجه، غير أنه يشترط شرف اللفظ وشرف المعنى. ومتى أخل المبدع بأحد الشرفين أخذه بجريرته، لا يفرط في الفن ولا يتسامح في المعاني، فيما يكتفي النقد العربي بالجانب الفني. والذين يفهمون الأدب الإسلامي ونقده فهما خاطئا، يتصورون أنهما خلق آخر. وعندما يستعرضون المعطيات الإبداعية والدراسات النقدية ثم لا يحدون هذا الشيء يتصورون أن النقد الإسلامي هاجس في ظهر الغيب. إن التصدي للأدباء والمفكرين أمثال (طه حسن) و(محفوظ) و(حيدر حيدر) و(نزار قباني) و(أبي زيد) وثائق للنقد الإسلامي. ولما تزل المشاهد تموج بالمعارك الأدبية التي يحركها النقد الإسلامي. أرجو أن أكون قد وفقت في عرض موجز للمشروعية والمفهوم لأدب أحببته، ولم أكتف به، وناصرته، ولم أنصرف عن غيره، ومتى حسنت النوايا وسمت المقاصد شرِّعت أبواب الوفاق، وغلقت أبواب الشقاق. وما أحوج الأمة إلى التفاهم والتسامح! فالزمن الرديء لا يجوز أن تعلو فيه نبرة التحدي وتصعيد الخلاف متى أمكن الوفاق. ذلك أن خطاب القوة والنصر والتمكين يختلف عن خطاب الضعف، فلا يكون إلا مع التمكين، ولهذا خفف الله عن الأمة حين علم أن فيها ضعفا. واحتدام المشاعر ليس مبعثه ما يلاقيه الأدب الإسلامي وحسب، ولكن مبعثه إلى جانب ذلك ما تعانيه الأمة من تفرق في الكلمة، وميل إلى المحدثات، وتلقف لما يأفكه المستشرقون والمستغربون، وانقطاع منبت في استقبال الآخر، وممارسة فوضوية باسم الحرية. وقولي هذا منصب على ثقافة الضرار وملاحقة المستجد من المذاهب دون تحفظ، والميل مع الريح حيث تميل من أناس كنا نعدهم من الأخيار.
|
|
|
| |
|