* قبل أيام قلائل من حلول شهر رمضان هذا، فقدنا علماً جديداً من أعلام التربية والتعليم، هو الأستاذ (سعد بن محمد عبد الواحد)، رحمه الله رحمة الأبرار، وجعله من المرضيين الناجين من النار. لقد جاء موته صدمة كبيرة، تلقاها أهله، ثم زملاؤه وتلاميذه وأصدقاؤه، وكل من عرفه، بكل الحزن والأسى والأسف، ثم بالصبر والاحتساب والدعاء له بالرحمة، ولسان حالهم يقول:
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا |
* ولد الأستاذ سعد عبد الواحد، في ينبع البحر، في حوالي العام 1349هـ، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها، ثم لما تخرَّج في المدرسة الوحيدة هذه في ينبع عام 1363هـ، كان هو واحداً من بين (300 طالب فقط)، يشكِّلون مجموع عدد الطلاب المتخرجين على مستوى المملكة في المرحلة الابتدائية في ذلك العام، ثم لم يكن في المملكة كلها آنذاك، إلا متوسطة واحدة في مكة المكرمة، فانتقل إلى مكة المكرمة، ودرس فيها المرحلة المتوسطة، ودرس في المعهد العلمي فيها كذلك، فتخرَّج عام 1369هـ، وعُيّن معلماً بمدرسة الأمراء بالطائف، التي أصبحت فيما بعد، مدرسة الثغر النموذجية التي ما لبثت أن تحوَّلت من الطائف إلى جدة بعد عدة سنوات.
* بعد عشر سنوات قضاها الفقيد، معلماً في مدرسة الأمراء بالطائف، ابتعث - رحمه الله - للدراسة في القاهرة، في مركز التربية الأساسية لليونسكو، وحصل منها بعد ثلاث سنوات، على دبلوم في التربية في تعليم الكبار، فعاد موجهاً لتعليم الكبار بوزارة المعارف، ثم في تعليم الطائف، إلى أن أصبح عام 1382هـ، وكيلاً فمساعداً لمدير التعليم الأستاذ (عبد الله الحصين)، أمد الله في عمره، وعندما انتقل عمل الأستاذ الحصين إلى جدة، أصبح هو مديراً لتعليم الطائف من العام 1394هـ، حتى العام 1415هـ، وهو العام الذي أُحيل فيه على التقاعد، بعد رحلة مع العمل الدؤوب الجاد المخلص، قاربت نصف قرن، عمل فيها مع أربعة وزراء في تاريخ وزارة المعارف هم: الملك فهد بن عبد العزيز، أول وزير للمعارف، والشيخ عبد العزيز آل الشيخ، والشيخ حسن آل الشيخ، رحمهم الله جميعاً، والدكتور عبد العزيز الخويطر.
* كان (أبو هبة) رحمه الله - وهذا ما كان يحب أن يُكنى به، لحبه لابنته هبة - مثالاً يُحتذى في كرم الأخلاق، ونبل الخصال، عفيف اللسان واليد، نزيهاً إلى أبعد حد، حتى شهد له بذلك رؤساؤه وكل من عمل معه، فقد قضى كل عمره في خدمة وظيفته، دون أي التزامات أخرى تشغله، فكان أول من يدخل مكتبه، وآخر من يخرج منه، وعندما أُحيل على التقاعد، لم يكن له سوى داره المتواضعة التي سكنها سنوات طويلة، وهي عبارة عن (فيلا) صغيرة، من دور واحد في حي السلامة، شارع عائشة أم المؤمنين رقم 6 وليس في حسابه أكثر من سبعمائة ألف ريال، صرفها كلها على عمليات جراحية أجراها بعد التقاعد في أميركا..!
* عندما تقاعد (أبو هبة)، واظب على برنامجه اليومي المعروف قبل التقاعد وبعد التقاعد، المشي صباحاً، والغذاء الصحي المرشَّد، والنوم مبكراً، والصحو مبكراً، وارتياد الأسواق العامة مع الناس، ليقضي حاجته بنفسه، وزيارات الأصدقاء والمحبين، وظل رحمه الله، يكرر في سعادة وحبور قوله: (الحب حصادي)، وهو يقصد حب الناس ومودتهم، وقد صدق في ذلك، فيوم تكريمه رحمه الله بعد التقاعد، اضطر لجمع ونقل الكؤوس والدروع والهدايا في سيارة كبيرة، وعندما وضع كل هذا في غرفة خاصة بالفيلا، قال لي وهو يشير إلى هذا الكم من الهدايا: إنه ينوي إقامة معرض لها، فماذا يسميه..؟ قلت له وقتها: سمه (معرض الوفاء)، ثم لا أدري بعد ذلك، ما فعل الله بهذا المعرض، وهل تحققت له هذه الأمنية التي كانت تراوده قبل وفاته..؟ ألا ما أقصر الأيام قبل الممات، وما أطولها بعد الممات:
إن دهر السرور.. أقصر من يو |
م.. ويوم الفراق.. دهر طويل..!! |
* اتصف رحمه الله بالمرح والفرح والتسامح والبسمة العريضة، وكان صاحب نكتة حاضرة، لا يُمل حديثه في المجالس، ولا يتبرم منه مُجالس، وقد تلمح على محياه في بعض الأحيان، مغالبة من صاحب عزيمة، لأحزان دفينة، لكنه ما يلبث أن يبدد هذا كله في ناظريك، بحلو كلامه، وطلاوة لسانه، فتشعر بعد ذلك، أنك أمام أسعد سعيد في هذا الكون.
* عرفت (أبا هبة)، وأنا في سني الطلب، ثم أصبحت أكثر قرباً منه، بعد انخراطي في الوظيفة، وصلتي بالجريدة، فرأيت فيه كل صفات الوفاء والنبل والمروءة، وكان رحمه الله، من القياديين القلائل، الذين يستحقون الاحترام بأفعالهم لا بأقوالهم، فلم أعرف قيادياً غيره أجمع عليه زملاؤه ومرؤوسوه، مثلما أجمع منسوبو تعليم الطائف على (الأستاذ سعد)، كانوا ينعتونه بالأستاذ، وهو كان أستاذاً بحق، ليس في تخصصه العلمي فقط، ولكن في شمائله الكريمة، وأخلاقه النبيلة، وصحبته الشفيفة.
* كان (الأستاذ سعد) رحمه الله، ينادي زملاءه بقوله: (يا أولادي). ويقول لهم: (أنا ما عندي أولاد، ومكسبي في هذه الدنيا هو أنتم)..!
* ومن وفائه بأساتذته القدماء، أنه يحزن على فراقهم مثل حزنه الشديد على والده ووالدته. عبَّر لي عن هذا بلسانه، ورأيته في عينيه أكثر من مرة. قال لي ذات يوم - وهذا كله منشور في حلقتين من ضيف الجزيرة، لحديث طويل، أجريته معه ونشر في العددين (8240 - 8247)، بتاريخ (21 - 28 من شهر ذي القعدة عام 1415هـ) - قال رحمه الله: (لو كان الأمر بيدي، لأعطيت عمري لأستاذي الذي علمني)..!
* وللفقيد رحمه الله، مواقف إنسانية كثيرة لا تُعد ولا تُحصى، وبخاصة مع منسوبي إدارته، من أصحاب الظروف الخاصة والصعبة، وتعدى هذا إلى المستخدمين، وإلى أسر وتلاميذ وطلاب كثر. يروي الأستاذ (سعيد جمعان الزهراني)، وكان مديراً في المدارس الابتدائية حتى تقاعده هذا العام. قال: زارنا (أبو هبة) رحمه الله في المدرسة، وكان هناك تلميذ صغير يبكي في طابور الصباح، فطلب مني أن أسأله بلطف: ماذا يبكيه؟.. ويضيف الأستاذ الزهراني: عرفت أن الطفل لم يحضر دفاتر معه، وكان خائفاً من العقاب. فأخبرت الأستاذ سعد رحمه الله بذلك، فكلفني أن أتحرى أكثر عن أسرته، فعرفت أن أسرته معدمة، لدرجة أنها لا تستطيع توفير دفاتر لهذا الطفل، وجمعنا في المدرسة ألف ريال مساعدة لأسرة الطفل.. وعاد يسألني رحمه الله عن أمر الطفل، فأخبرته بذلك فقال: ماذا فعلتم في المدرسة..؟ قلت: جمعنا للأسرة ألف ريال. قال: ومن عندي هذه ألف ريال أيضاً.
* أول ما رأيت الأستاذ سعد رحمه الله، في حفل مدرسي أو كشفي مسائي، أظنه في دار التوحيد، وكنت وأنا طالب في المرحلة المتوسطة والثانوية، أحضر المناسبات العامة والرسمية، لأصوِّرها وأكتب تقارير عنها أنشرها في صحيفتي (الندوة)، فرأيته - رحمه الله - يعتلي المنبر بعد فقرات خطابية سبقت، ليتحدث فيقول بداية: (ماذا أقول.. لا عطر بعد عروس). ثم أصبحت لا أرى (أبا هبة) على منبر، إلا وهو يردد هذا المثل العربي الشهير، الذي أطلقته امرأة عربية، توفي عنها زوجها وكان اسمه (عروس)، فظلت زمناً طويلاً حزينة تبكيه، فضج منها أهلها، وطلبوا منها ترك الحزن، وأن تتطيَّب وتتعطَّر مثل بقية النساء، فقالت قولة أصبحت مثلاً: (لا عطر بعد عروس).. وهذه أصبحت لازمة لأبي هبة رحمه الله، حتى إني سألته عنها بعد تقاعده، فقال في تواضع جم، هو من بعض سجاياها المعروفة فيه: وهل عندي ما أقول بعد الذين يسبقونني في الكلام، وهم أعلم وأعرف مني..؟!
* كان رحمه الله، قد جاب نصف العالم الشمالي والغربي تقريباً ما عدا الشرقي، في سفرات عمل وسياحة.. ومع ذلك، كان لا يخفي خوفه من ثلاثة: (البحر والطائرة وأميركا).. قلت له مرة: البحر والطائرة.. لا بأس. ماذا يخيفك من أميركا..؟! قال: هي حالة نفسية، أو ما أقرأ عنها من جرائم تهز البدن يا ابني.
* دخلت داره آخر مرة قبل أن ينتقل إلى جدة، فكانت الزهور من كل لون، تزين مداخل الفيلا، وتشعرك بالفرح والسرور حقيقة، ولما ذكرت له شيئاً عن فلسفة التقاعد، وهل له صلة أو عدم صلة بما يردد بعضهم قوله: (مت.. قاعد)، قال رحمه الله: لو تراني يا ابني.. أنا أبذل جهدي بعد التقاعد، حتى لا أموت قاعداً..!
* لكن والدنا وأستاذنا مات أخيراً.. مات (الأستاذ سعد).. بل استراح (الأستاذ سعد عبد الواحد)، ولما يمت في ذاكرة أهله وطلابه وزملائه وأصدقائه، وكل من عرف فيه الإنسانية والشهامة والمروءة:
إنما الميت من يعيش كئيباً |
كاسفاً باله.. قليل الرجاء |
* أستاذنا الكبير (سعد عبد الواحد).. ليس عندي ما أقوله اليوم، بعد أن تركتنا نبكيك، غير أن أقول في حزن وألم وحرقة: وداعاً يا (أستاذ سعد).. ف(لا عطر بعد عروس).
assahm@maktoob.com |