| |
استرعى انتباهي (المصداقية).. عندما تكذب وسائل الإعلام د. عبدالله بن ناصر الحمود(*)
|
|
تشير أدبيات ممارسة الإعلام إلى العديد من القيم والمعايير المهنية التي باتت بمثابة المسلمات في الأداء الإعلامي الذي يحترم ذاته ويحترم جمهوره. وليس المقام، هنا لإلقاء درس في أخلاقيات مهنة الإعلام. غير أنه مهما اتفقنا على أن نترك الحديث عن المعايير المهنية والأكاديمية لقاعات الدرس، وورش العمل وأن ننأى بذلك عن صفحات الجرائد، فإننا يمكن أن نتفق حول طرق موضوع (المصداقية). إنني أعتقد أن المصداقية تعدّ ذروة سنام الممارسة الإعلامية، ودليل حاسم على مهنية تلك الممارسة أو نقص المهنية فيها. وأظن أن المصداقية احتلت هذه المكانة لانفرادها بميزة كبرى دون بقية القواعد والمعايير الأخلاقية، وقيم الممارسة الإعلامية. وتلك الميزة هي (انعدام النسبية). فالقيم والمعايير الأخرى غير (المصداقية) تكون نسبية في مجمل الحالات، بمعنى أنه يمكن أن نختلف حول (موضوعية) مادة إعلامية دون أخرى. وكذا الحال بالنسبة ل(السلبية والايجابية) في اتجاه الطرح، ونحو ذلك. لكننا بالتأكيد، نتفق على أن المادة المعروضة على وسائل إعلامنا إما أن تكون (صادقة) أو (مكذوبة)، وليس ثمة مدى نسبي بين هذا وذاك. وللتوضيح.. فعلى سبيل المثال، يوجد جدل علمي ومهني كبير حول (الموضوعية) إن كانت قيمة مهنية يجب تحققها في العمل الإعلامي، أم أنه لا مجال لموضوعية الممارسة الإعلامية، بل هي ذاتية بالضرورة. وبين هؤلاء وأولئك مساحة كبيرة من إمكانية قبول أو رفض المادة الإعلامية أو بعضها. وهذا يؤكد أن ثمة مدى نسبي بين المؤيدين ل(موضوعية وسائل الإعلام)، والمعارضين لذلك، المقرّين بأنه لا موضوعية في الإعلام وأنه ذاتي. وهذا الرأي الأخير هو الرأي الذي أميل إليه، لما أجد فيه من واقعية كبيرة. وحيث يمكن إجراء القاعدة نفسها على كثير من قيم العمل الإعلامي، لن يمكن ذلك مع (المصداقية) حيث يجب أن يكون الإعلام (صادقاً) أو لا يكون، ولا يتوقع قبول مدى نسبي في (مصداقية) الوسائل لأن الجمهور لن يغفر للوسيلة أنها (كذبت) عليه ولو حتى (نسبياً). وترتبط (المصداقية) ارتباطاً حيوياً مباشراً ب(المعلومة) في كثير من أشكال الممارسة الإعلامية بما يشمل (الخبر) أو (التقرير) أو (التحقيق)، ويخرج من نطاق هذه القيمة عدد من الأشكال الإعلامية الأخرى كالدراما والبرامج الترفيهية المحضة، والتي تقوم على نوع من المعالجات الإعلامية ليست المعلومة جزءاً رئيساً فيها. وفي معرض تقويم (مصداقية) وسائل الإعلام، ينبغي استحضار نوعين من الجمهور: الأول: الجمهور العام، وهو كل فئات وشرائح الجمهور المستهلك للرسالة الإعلامية، والذي سيطالب -بالضرورة- أن تكون وسائل إعلامه التي يختار التعرض لها صادقة، وأن تحترم عقليته وإنسانيته. الثاني: الجمهور الخاص، وأعني بذلك الجهة المستهدفة من أعمال النشر المطبوع أو البث المرئي والمسموع، عندما تتوجه بعض المضامين الإعلامية لتناول هذه الجهات، في أي من أشكال العمل الإعلامي خبراً أو تحقيقاً أو تقريراً أو نحو ذلك. إن الملاحظة المتخصصة تشير إلى أن عدداً من الممارسات الإعلامية لمحررين، أو معدين، أو مراسلين قد أوقعت وسائلهم في حرج شديد من (جمهورها الخاص) في المقام الأول. فعندما يقوم أحد عناصر العمل الإعلامي بإلقاء تهمة ما، أو وصف معين، أو يشير إلى قصور في أداء بعض مؤسسات المجتمع، أو إلى أخطاء يرتكبها جهاز إداري أو فني في مكان ما، فإن ذلك سيكون محرجاً جداً للمؤسسة الإعلامية لو اتضح أن ما تم نشره أو بثه كان (عارياً عن الصحة). بل يمكن أن يقود إلى عواقب قانونية نظامية ما كان ذلك المحرر أو المعد أو المراسل في مواجهتها، لو أنه تحرى (المصداقية)، فيما يذهب إليه. ومع الإقرار بنقص المعلومات -عادة- في مجتمعاتنا، إلا أن ذلك يجب أن يدفع لمزيد من التأني واكتساب المهارات المهنية العالية في البحث عن المعلومة قبل الإمساك بالقلم والبدء في كتابة أي مادة صحفية أو إذاعية أو تلفزيونية أو على شبكة الإنترنت. إنها دعوة إذاً، لكل مسؤولي صحفنا السعودية، ومحطات الإذاعة والتلفزيون وكذا المشرفين على مواقع على شبكة الإنترنت، أن نتحرى (المصداقية) دائماً، وأن ننفق في سبيل تدريب وتأهيل العاملين معنا على اكتساب مهارات أعلى باستمرار، ومراجعة وتقويم ممارستهم لأدائهم لمهماتهم في ضوء المعايير المهنية، وقيم الممارسة الإعلامية. إن الجمهور العام الذكي النشط اليوم، لن يغفر للوسيلة إن هي ظهرت وهي تكذب عليه، وكذا الجمهور الخاص، لن يتوانى في (قلب الطاولة) على الوسيلة الإعلامية التي تستهدف نقده ومناقشته إن هو وجد مدخلاً رحباً جداً يتمثل في أن الوسيلة (تكذب).
(*) نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
alhumoodmail@yahoo.com |
|
|
| |
|