| |
استرعى انتباهي نازعونا (جهاد الطلب) فسموه (الحرب الاستباقية).. فارتضيناها د.عبدالله بن ناصر الحمود*
|
|
لم يكن قد مضى على أحداث الحادي عشر من سبتمبر سوى عام واحد حتى صدرت الوثيقة الأكثر أهمية في تاريح الصراع بين الأمريكيين وغيرهم في العصر الحاضر تحت عنوان (استراتيجية الأمن القومي الأمريكي) والتي نصت على أنه (على الولايات المتحدة أن تحتفظ وتظل محتفظة بقدرتها على إحباط كل مبادرة يقوم بها أو يفكر في القيام بها أي عدد من أعدائنا للنيل من قوتنا, سواء أكان هذا العدو دولة أم غيرها... وأن ننتزع منه القدرة على فرض إرادته علينا أو على حلفائنا أو أصدقائنا في العالم, بل ستبقى قوتنا القوة الكبرى التي تروع جميع خصومنا وتشل قدراتهم...). ومن هنا، تم التنظير المعاصر (للحرب الاستباقية) التي أرعبت بها الولايات المتحدة كلا من أفغانستان والعراق، ولوحت بها في وجه الآخرين حول العالم. ومن البدهي الفهم العميق بأن الخلفية الاستراتيجية وراء هذه النظرية هي تقزيم كل قوى العالم الأخرى مهما كانت، وأين كانت. فالحق للبقاء في مركز السيادة العالمية هو فقط حق أمريكي حصري. ويمكن لأي عاقل أن يدرك أن من مستلزمات تحقق السيادة العالمية تلك، أن يتم امتلاك مقوّماتها، وأن من أهم مقوماتها أن يكون لدى أمريكا قوة الردع الكبرى التي لا يمكن لأية قوة بشرية قهرها. كما يمكن أن نفهم أن من متطلبات ذلك أيضا، ألا تسمح الولايات المتحدة لأية قوة أخرى حقيقية أو محتملة أن تنازعها عرش السيادة هذا ولو بعد حين، بل تبادر أمريكا بشن الهجوم على كل من تعتقد أنه يمكن أن يكون سيدا فيما لو تركته. ومن هنا كان القمع الأمريكي لكل صاحب فكر مستقل يحترم نفسه سواء كان دولة أو جماعة، أو حتى فردا، ووضعه تحت التليسكوب لإحباط أية محاولة له للنهوض من مرقده الجبري الدائم في القاموس الأمريكي. أعتقد أنه يمكن بهذا، فقط، فهم جزء كبير من حقيقة الصراع الأمريكي العالمي اليوم، والذي وجد العالم الإسلامي نفسه فيه قسرا، لأنه من أكثر أمم العالم احتراما لنفسه، وهو من لا تخمد فيه عزة الذات، ولا يهاب المنازلة على شرف السيادة. وأظن بذلك، أنه من غير الملائم أن نتصور أن أمريكا تستهدفنا لأسباب اعتقادية (ربوبية أو ألوهية)، محضة، فلو كنا نقبل أن نُقاد ولا نقود، وأن نُساد ولا نسود، لأصبحنا - بما نملكه من ثروات - أعز على أمريكا نفسها من كثير من فلذات أكبادها، وأقرب إلى قلبها من بني إسرائيل، حتى وإن كنا نقول بأننا مسلمون. في ظل هذه الرؤية، يمكن فقط، أن نفهم الصراع الأمريكي الأكثر حرفية مع غير المسلمين، والذي تقوده كوريا الشمالية التي بدأت برنامجها النووي خلال عقد الخمسينات من القرن المنتهي، ولكن سقوط ولي نعمتها (الاتحاد السوفيتي) قد جعلها في مهب الريح مقابل الولايات المتحدة التي رفعت في وجهها (إعلان الشمال - الجنوب) الخاص بالإخلاء من الأسلحة النووية. كما يمكن في ظل الفهم الشامل للصراع الأمريكي العالمي، أن ندرك كثيرا من أبعاد (الصراع الأكثر ندية) بين الولايات المتحدة والصين. فمع إقرار الولايات المتحدة بأنه لا يليق استخدام المنهج ذاته المستخدم مع العرب والمسلمين، أو حتى مع الكوريين، مع دولة بحجم الصين، إلا أن قانون السيادة - الذي تؤمن به أمريكا - قد فرض عليها احتواء الصينيين تجاريا وثقافيا ووضعهم تحت المجهر الأمريكي الذي يتنبأ لهم بأن يكونوا المارد الأكبر سياسيا وعسكريا في القرن الحادي والعشرين. لكن الصينيين استفادوا كثيرا من خيبة أمل أسلافهم في الاتحاد السوفيتي، واستطاعوا تطوير قدرات سياسية ودبلوماسية متقدمة جدا لمناورة الغرب المتمرد، وهو الأمر الذي لم نفلح فيه - مع الأسف - في عالمنا العربي والإسلامي، ربما لنقص معارفنا، أو تجاربنا، أو خبراتنا، أو ربما لنقصٍ حادٍ في ذلك كله. إن استقراء الواقع الدولي المعاصر وفق شيء من هذه الخلطة، يؤكد أنه علينا في معرض صراعنا مع الغرب ومع الولايات المتحدة تحديدا، أن نتيقن أنه صراع سيادة. وبذلك فإن مرتكز هذا الصراع يقوم على (تقليم الأظافر) دون شك، ومن بدهيات عملية التقليم تلك الطعن في فكر وسلوك (جهاد الطلب عندنا)، بل كل (الجهاد)، لأنه وفقا للفلسفة الأمريكية، ليس من الحصافة أن نكون نحن أقوياء. ومن المؤسف أننا عندما وصلنا إلى هذه المرحلة من الصراع مثلما وصلها غيرنا ممن يرون أنفسهم أهل للسيادة (من الصينيين) أو (الكوريين) مثلا، لم نكن نحن مؤهلين لخوض ساحة الصراع مثلما هم مؤهلون استراتيجيا، وفكريا وحتى اجتماعيا. فكثير من المثالب والأخطاء الاستراتيجية تجعلنا في حال لا نحسد عليها فقدنا خلالها توازننا في كثير من الحالات، حتى انبرى منا من هان عليه كثير من مسلماتنا، حتى لو كان الجهاد، وأظن أن (الجهاد) ليس إلا مصطلحا مرتضى للتعبير عن عنصر من عناصر القوة ومكوّن من مكونات السيادة العالمية التي نحن أهل لها. ولن يعني ذلك أبدا أننا - في عالمنا الإسلامي - قد أحسنا توظيف (الجهاد) في كل العصور، بل من المؤسف أنه قد تم تجييره لأهواء سياسية أحيانا، ولمصالح ذاتية أحيانا أخرى، بل وربما لعمالة وضيعة أحيانا ثالثة. إن المسؤولية الكبرى اليوم تحتم على كل من يتصدى للحديث عن (الجهاد) من المسلمين أن ينزل الجهاد منازله، وأن يدعو إلى ضرورة إعادة الاجتهاد فيه، وتقنينه، ومراجعة الأدلة والأحكام الخاصة به، وإلى إصدار نسخة عصرية مؤصلة لأحكامه وواجباته. لأننا في أمس الحاجة إلى ذلك، في ظل استغلاله من قبل الجماعات المتطرفة والمنحرفة، والادعاء على الجهاد بما ليس منه من قتل الأبرياء وسفك دماء المعصومين والخروج على طاعة ولاة الأمر وشق عصا الجماعة، لكن هذا أمر، وأن ننقاد خلف الدعوات الغربية للنيل منا ومن قيمة الجهاد عندنا أمر آخر. فلا يسوغ لنا أن نشكك في كثير من ثوابتنا وعناصر قوتنا لأن الآخرين يريدون ذلك، فهذا أمر لا نطيقه، وغاية أسأل الله ألا نرى اليوم الذي تتحقق فيه. وهنا أسوق اقتراحا لكل من تلقى سؤالا استنكاريا أو استفزازيا من غربي حول موضوع (الجهاد) أو (جهاد الطلب خاصة) أن يعيد السؤال على السائل عن (نظرية الحرب الاستباقية) وعن (قانون الإرهاب) الذي تخطف وتأسر إسرائيل بناء عليه رجالنا ونساءنا وقادتنا الرسميين في العالم الإسلامي. وخلاصة القول: إنهم يسألوننا عن الجهاد لأننا نعيش زمن (صراع السيادة)، فالعالم اليوم مؤذن ببزوغ سادة جدد، وليس أبدا لأننا نحمل نوايا لإيذا الناس، كيف ونحن نقتدي بمن يقول الله تعالى فيه: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). إنه في الحين الذي عابوا علينا (جهاد الطلب) رفعوا في وجوهنا (قانون الإرهاب) و أعقبوه بنظرية (الحرب الاستباقية)، ومن المؤسف أن منّا من قد يكون رأى في ذلك عدالة اجتماعية بينما رأى فيما عندنا الجور والطغيان.
* نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
alhuoodmail@yahoo.com |
|
|
| |
|