| |
قراءة في كتاب (صوت من الأعماق) د. عبدالعزيز الخويطر
|
|
كان مجتمع آبائنا يفرح عندما يكون فيه من (يفك الخط) ويبتهج بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليه، فيفتح أبواب العمل لمن هو كذلك، وبقي هذا قروناً، ووصلت هذه الحال إلى زمننا، وبقي الأمر كذلك عدة سنين، يُمَيَّز من يقرأ ويكتب، فالعلم نور، والنور شع في هذا المحيط. وعندما أنشئ الجيش النظامي أيام الملك عبدالعزيز - رحمه الله - قُدِّم من يقرأ ويكتب على من لا يقرأ ولا يكتب. ثم بدأ التعليم النظامي، فأصبح من يحمل الشهادة التحضيرية مرموقاً، ويشار إليه بالبنان، أليس يقرأ القرآن بالتجويد، ويحفظ جزءاً منه أو جزأين، ودرس شيئاً من التوحيد والفقه والتاريخ والتجويد والحساب؟ ألم يعلم قواعد الخط الحسن نسخاً ورقعة، ويعلم الإملاء؟ إنه قنديل بجانب من لم يحصل على شهادة هذه المرحلة. ثم خَفَت نور هذا القنديل عندما شع بجانبه ضياء من حمل الشهادة الابتدائية، وهي أربع سنوات بعد التحضيرية، وأعطي هذا الخريج نظرة التبجيل حتى جاء خريج الثانوية، فكسف نور ذاك عند نور هذا، فهؤلاء نهلوا من مورد عذب جديد، فيه العلوم الحديثة، فيه الكيمياء الطبيعية والرياضيات واللغة الإنجليزية، ثم فتحت الدولة باب الابتعاث إلى خارج المملكة للدراسات الجامعية في التخصصات المتعددة، وسرعان ما فتحت الجامعات في المملكة. وصار خريجو تلك المرحلة المتقدمة ملء السمع والبصر، ومصدر فخر البلاد بأجمعها. وسرعان ما بدأت الدراسات العليا، وصار منها خريجون. كان يتبع كل هذه المراحل بريق بهجة، ومظاهر سرور، تعم المجتمع، وتحظى بكثير من الإعلام، لقد فرشت الأرض وروداً في طريق هؤلاء الذين وضعوا أقدامهم على جادة التقدم، والأمل في الإسهام في رفع بلادهم إلى مصاف الأمم المتقدمة. في أثناء هذا البريق كانت الفتاة في مرحلة من هذه المراحل تتلمس طريقها في التعليم بهدوء، وتمكنت من العلم، وتنور ذهنها بالمعرفة، وشاركت في المجالات التي أتيحت لها، ومنها مشاركتها فكرياً فيما يهم بلادها، ويخص مجتمعها مما لا يجيده إلا هي، خصوصاً ما يخص المرأة، وإن كان اعتداء الرجل على هذا المجال لم يكن قليلاً، أما هي فسارت سيراً متئداً يتسم بالتواضع والاستحياء. فبدأت النظرة إلى مشاركتها تتغير بعد أن بدأ يأتي منها ما يبزّ ما يأتي من بعض الرجال في التخصصات التي اعتقدت أنها تنتج فيها بجدارة. وبقيت تعاني من تدخل الكتّاب الرجال فيما هو من تخصصها، وما تتقنه، لأنها تعيشه وتعرف دخائله ومنحنياته. ولكنها بقيت مصممة على أن تسير إلى الهدف، فواظبت على الكتابة الرشيدة في الصحف والمجلات، وكتابة الكتب، والمحاضرات في الجامعات، وفي محافل النساء، ويطل علينا بين آن وآخر إنتاج يشدنا، ونعجب به، إيماناً بفائدته، واعترافاً بصوابه. أمامي الآن كتاب (صوت من الأعماق) للكاتبة (مها بنت سليمان الوابل)، وهو مجموعة مقالات كتبتها تباعاً تحت زاوية: (صوت من الأعماق) في مجلة (الشقائق) التي ترأس تحريرها سمو الأميرة الأستاذ الدكتورة سارة بنت عبدالمحسن بن عبدالله بن جلوي آل سعود، ثم رأت أن تجمع شملها في كتاب، هو هذا الذي بين يدي، وأنا من الداعين المتحمسين لجمع المقالات من الصحف والمجلات في كتاب يلم شتاتها، ويجمع متفرقها، وهذا أحد الأسباب التي جذبتني إلى هذا الكتاب، فماذا وجدت فيه؟ وجدت أموراً تسر، من موضوعات تعالج جوانب مهمة في المجتمع، رأت الكاتبة أن من حقها أن تَبْرز، وأن ينبه إلى ما فيها من انحراف أو تميز، يؤمل أن يقوم المنحرف، ويعضد المتميز. تقول المؤلفة: إن هذا الكتاب هو أول ثمرة جهدها، ونحن نقول هنيئاً بهذا الفتح، ونرجو أن يكون مدخلاً إلى حقل واسع، وما فيه مزدهر ومثمر، وأن الكثير مع مرور الأيام سيتلو، مع معالجة ما يعن لها، وما تلاحظه وأن يكون دائماً نابعاً (من الأعماق)، فالجذور العميقة دليل الثبات والقوة، وعموم الفائدة. مقالاتها، لنضج الفكر خلفها، لم تقتصر على النقد، وتتبع الخلل، وهذا سهل، ولكنها أسهمت بالحلول، وتلمست سبل التغلب على المشكلات، وتعديل المعوج. أجل إنها لم تقف عند مجرد التساؤل، ولكنها استدرت ما يمكن أن يجلب من علاج. مقالاتها تهتم بالمرأة، وشؤونها، وما يأتي منها، وما يقع عليها، والمرأة أعرف بالمرأة من الرجل الذي طال عليه الزمن وهو يكتب عنها، وأحياناً يكون بعيداً عنها، فليس أباً لها أو أخاً لها أو ابناً لها، أو زوجاً لها، ولكنه مجرد كاتب تمرن قلمه على الكتابة، وأخذ يجول في ميدان ليس ميدانه، ويبيع ويشري في سوق ليس سوقه. في مقالها مثلاً: (كثير من العقل قليل من الصراخ) عالجت عدم التكافؤ أحياناً في العاطفة بين الزوج والزوجة، وتداخل هذا في الهدف مع مقال: (أبي الرجل الذي ظلمني وأنا ظلمت الرجل زوجي). ومقالاتها كما قلت تركز على المرأة، وعلى أحوال المرأة في مجالات قد تفاجئ القارئ، وتأتي في هذا بصور متباينة عن أفراحها وأتراحها، فلا مقالة إلا وفيها صورة لها، مثلما جاء في مقالة (سرقة)، تنقلت فيها مع القصة من حالة إلى حالة، دخلت في عمق النفس الإنسانية، وما تكون عرضة له من مؤثرات، وبدأت برسم صورة وانتهت برسم أخرى مغايرة. وتبحث عن الحكمة فتجدها في قصة معاقة، وتسمي المقالة: (صمت أبلغ من الكلام)، وتغوص على المعرفة، وعمق الأثر في مقالة: (امرأة وسيجارة). في كل مقالة معالجة لداء من أدواء المجتمع، أو حث على التمسك بما اكتسب من الفضائل، ومقالة (قلب أم) فأنت معها تسابقها، وتعرف ما سوف يدور عنه كلامها، لأن لك أماً، ولا تخطئ معرفة دفء قلبها، وما هو حق لها، مما لا تتناطح فيه عنزان، وتُبَهِّر المقالة بأبازير من الشعر ترسم صورة قلب على حقيقته، تجعل المغالاة سبيلاً للتأثير. ولا تقتصر معالجتها على هموم المرأة السعودية بل تتعداها إلى المسلمة في بلاد أخرى، تشارك بالشعور المرأة في كوسوفا وفي الجزائر، وتصب من ماء عاطفتها ما يدل على عمق شعورها تجاه معاناة أختها في الإسلام. وهي بهذا، دون أن تعلم تؤرخ لحوادث عالمية سرعان ما سوف ينساها الناس لولا إضاءات مسجلة في هذا الكتاب وأمثاله، سوف تبهت الصور، عن البوسنة وعن الجزائر مع مرور الأجيال، وسوف يمر بها الناس - إن مروا - مرور الكرام. وترى العاطفة الدينية في مقالة (إميلى أسلمت) وهي تلمس هنا ظاهرة ليست غريبة في مجتمعنا، وهو إسلام بعض الفلبينيين نتيجة المعاملة الحسنة التي يلقونها ممن يعملون معهم، ولطول المدة بسبب هذا التي يقضونها عند من يخدمونهم، وقد لمست جانباً من جوانب هذه الظاهرة، وهي التفاتة محمودة ومقدرة. والتاريخ أحياناً يكتب دون قصد، يأتي عفواً، فمقالة: (رسالة إلى إيرما) تصلح أن تكون لغزاً يلقى على الناس، فيسألون من هي (إيرما) وما قصتها؟ التاريخ ينسى، خصوصاً إذا ترك أمره للصحف والمجلات، إذ لا بد أن يدون في كتاب، وها هي قصة (إيرما) قد دونت - والحمد لله - في كتاب (صوت من الأعماق) وسيعرف القارئ عن إيرما شيئاً قد لا يكون عرفه، أو لعله نسبه، أو بعض جوانبه، ولكن هذه المقالة في هذا الكتاب رسمت بأحرف مدادها حرقة من الصدر، أن هناك طفلة عمرها خمس سنوات من البوسنة بعثرت أجزاء جسمها قنابلُ الأعداء.غِيْرَتُها على بنات وطنها ظاهرة، وعلى وطنها واضحة، تكتب عن الوطنية، ثم تعود وتكتب، فحب الوطن هاجس قد ملأ إحساسها، ومثل هذا ظاهر في مقالة: (هل عرفتم معنى الوطن؟) وفي (للوطن عبق جميل). في ضوء هذا الحب تكتب عن الخلل في المجتمع، وكيف أنه يبدأ، وينظر إليه نظرة سلبية، فلا يبادر في علاجه، لا من الأفراد ولا من الجماعات، فإذا ما استفحل وتشعب، وأصبح ظاهرة، تساءل الناس كيف جاءت هذه الظاهرة؟ ولو تذكروا وتمعنوا لوجدوا أنها من ذلك الشيء الصغير، كبر ونما وتشعب، فضاعت معالم بدئه، والأسباب خلف ذلك. وكانت تكتب من أعماق قلبها، وتنتظر أن تعرف من المتلقين رأيهم، هل يشاركونها أفكارها، أو أن لهم أراء أخرى، تريد أن تعرف صدى ما تكتب، هي لا تطلب المدح ولا التقريظ، هي ترحب بالنقد، فأين هو؟ إنه أداة التحسن، وهي تريد أن تتقن عملها، لذا فهي عاتبة، وحق لها أن تعتب، فهي تشعر أنها تصرخ في بيداء لا يرد صوتها لا جدار بيت، ولا لحاء شجرة. لعل في كلمتي هذه رد صوت، تعرف منه أني أعتقد أنها على الخط المستقيم، للهدف السامي الذي اختطته، وسارت فيه بأناة وتؤدة، وثبات وإصرار، وأننا نريدها أن تستمر وأن يتبع هذه المقالات مقالات على نمطها، ونراها جمعت في كتب لا في كتاب، شد الله أزرها، ورفع في الكتابة عملها، وأرانا منها ما يفيد وينفع، وهو المستعان في كل حال.
|
|
|
| |
|