الحياة تحتاج إلى نظرة موزونةٍ بعيدةٍ عن الشَّطط والغلوِّ والمبالغة في المواقف، والناس يحتاجون إلى ميزان دقيقٍ يزنون به الأشياء وزناً صحيحاً، ويعرفون به مقدار كل جانب وما يحتاجه من اهتمام ومتابعة، فلا يجنحون إلى الأوهام والخيالات في الحكم على الواقع، ولا يجنحون إلى الواقع جنوحاً يجعلهم يغوصون في فضيلته ورذيلته غَوْصَ التائه الحيران، الذي تضرب بزورقه الأمواج يميناً وشمالاً، تقترب به من الشاطئ حيناً، وتبتعد به عنه أحياناً أخرى.
ميزان الحياة الدقيق هو ميزان الشرع الحكيم، ميزان قوله تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، هذا الميزان الإلهي الذي تستقيم به الحياة وتستقر، وتقوم به شؤون البشر دون إسرافٍ أو إجحافٍ أو تطرفٍ مشين.
ابتغاء الدار الآخرة هو الغاية الكبرى عند الإنسان العاقل السويّ الذي لم تستحوذ عليه الشياطين، وتتحكَّم فيه الأهواء والمصالح الخاصة وإذا شطح الإنسان عن هذه الغاية فجعل الدنيا ومباهجها غايته الكبرى، زَلَّتْ به قدمه، واختلَّ ميزان الحياة عنده وأصبح عنصر هَدْمٍ في الحياة، وإنْ ظنَّ أنَّه يبني، لأن التحوُّل من ابتغاء الآخرة إلى ابتغاء الدنيا، انحرافٌ كبير في مسيرة الحياة، لا يجرُّ للناس إلاَّ الدَّمار والبَوار، ونحن نرى في واقعنا المعاصر نماذجَ واضحة لهذا الانحراف، فالقتل والظلم والهدم الذي يجري أمام أعيننا نتيجة واضحة للتحوُّل من ابتغاء الآخرة إلى ابتغاء الدنيا، لأن الذي يجعل الآخرة هدفه الأكبر يتورَّع عن الظلم والاعتداء وغيرها من الأخطاء الكبرى إيماناً منه بأنه سيلقى جزاء ذلك خِزْياً في الدنيا والآخرة، أما الذي يجعل الدنيا هدفه الأكبر فإنه يصبح كلْباً من كلابها التي تتهارَشُ عليها وتتنابح من أجلها.
(وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) جملة واضحة تتحقَّق بها الموازنة العادلة التي تنظر إلى واقع الحياة بمنظار شرعي صحيح، ميزان عادل له كفتان متوازنتان؛ أولاهما (ابتغاء الآخرة) وثانيتهما (عدم نسيان نصيب الإنسان من الدنيا يضاف إليها الإحسان، والبعد عن الفساد في الأرض)، فهنا يتحقَّق وجود (ميزان الحياة العادل) الذي لا يتحقق العدل والإنصاف إلا به.
وبهذا الميزان لا يكون هناك يأس ولا قنوط ولا تشاؤم، ولا يكون هناك لهو ولعب ومخالفة لمبادئ الحق والخير.
ميزان الحياة في يد كل مسلمٍ ومسلمة، يستطيع أن يزن به حياته وزناً صحيحاً.
إشارة: