| |
عصر الصفوة صفوة كل العصور د. عبدالمحسن التويجري
|
|
إن العهود الإسلامية وإن تباينت في أثرها، وما تحقق معها من فتوحات باختلاف كل عهد، فإن عهد الخلفاء الراشدين يتميز على ما سواه، وتستمر المسيرة دون تراجع أو تردد، وتظل أمة الإسلام في حالة من تمسكها بدينها بتفاوت المكان والزمان. وربما أن استعراض تلك العهود من خلال أقوال الخلفاء إضافة تلقي بدورها على ما نحن عليه الآن وما عليه العالم من حولنا، فهذا الخليفة الأول أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يخاطب جماهير المسلمين فيقول: (أيها الناس فإني قد وليتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني). وفي موقع آخر من فكره وإيمانه وقيمه التي مصدرها الدين الحنيف في وصاياه لأسامة بن زيد حين سيّره إلى (ابني)؛ وهي موضع بالشام من جهة البلقاء، يقول: (لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تطؤوا نخلاً وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيراً إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم، وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقاً، اندفعوا باسم الله). وفي هذا دستور للحرب التي يسمو بها الهدف حتى وإن كانت حرباً، فالحرب لها قيم وضوابط، وليست روح عداء أو انتقام، أو مظهراً براقاً يدعو بالحرب، والهدف يُخفى غير ما هو معلن، وما يمكن استنتاجه من هذه الوصايا أنها ليست بحرب تدفع بها الأهواء والعدوان والمصالح الضيقة، بل إنها حالة دفاع عن الهدف ومن أجله، وهو مشروع يمتد من بدايته وحتى النهاية من أجل وحي السماء وهديها، وهذا هو المفهوم الذي يجب أن نتميز به ما دمنا محافظين على الدين، فهو ليس بتراث نختار منه لعصرنا ما نشاء؛ لأنه جوهر يحدد عقيدة الحرب يُكسبها مشروعية بخلق وانضباط. والخلفاء الراشدون - بتاريخهم وتاريخ كل فعل نسب إليهم - حلقة يُكمل بعضها بعضاً، وفي سيرة الفاروق - رضي الله عنه - وما قال به لعبرة ودرس، فبعد استخلافه صعد المنبر وقال: (إني قائل كلمات فأمنوا عليهن، إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقود، وأما أنا فوربِّ الكعبة لأحملنهم على الطريق)، وبهذا اختصر كل تفاصيل أراد بها تحديد منهاج لحكمه ومعالم لسياسته، وحين يُكلف عامل ليتولى حكم ناحية من دولته، فإن لهذا شروطاً لدى الفاروق - رضي الله عنه - ومنها قوله: (إني والله ما أرسل إليكم عمالاً يضربون أبشاركم أو ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم يعلموكم دينكم وسننكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليّ، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنّ منه)، هذا ما يُلزم نفسه به، ويعلنه الفاروق عن ذاته بروح من دينه الحنيف، وهو قول يرسم ملامح لسياسته وإدارته فيما بين عماله، والحُكم وجمهور المسلمين. وفي تتابع مع الخلفاء الراشدين، يقول الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بعد مبايعته في السنة الرابعة والعشرين للهجرة في خطبة عامة: (أما بعد فإنني حُمّلت وقد قبلت، ألا وإني مُتبع ولست بمبتدع، ألا وإنّ لكم عليّ بعد كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - اتباع من كان قبلي فيما أجمعتم عليه وسننتم، ومن سنة أهل الخير فيما تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم ... إلخ). وما قال به - رضي الله عنه - الجوهر لمنهاج الوسطية بما يلتزم به ويراه لجمهور المسلمين، وفي قوله - رضي الله عنه - وضوح يضع الخيار بين يدي المسلمين وفق ما يراه ويرونه. ومع الخليفة الرابع - رضي الله عنه - الإمام علي بن أبي طالب عبر وصيته في بداية خلافته، وهي وصية على هيئة حوار دار بينه وبين قوم من أمته ألحّوا عليه بقبول البيعة، فقال: (إني قد كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي أمر دونكم إلا أن مفاتيح ما لكم معي، ألا وأنه ليس أن آخذ منها درهماً دونكم، رضيتم قالوا: نعم، قال: اللهم أشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك)، طبع ودين أخذ من نفسه جل اهتمامه بزهدٍ ظاهر وبيان لا غموض من حوله لقبول ملتزم وملزم رضي الله عنه وأرضاه. ومع العصر الأموي نتبين شيئاً من ملامحه فيما قال به الخليفة عبدالملك بن مروان (65هـ - 86هـ) حين أوصى أخاه حين توليه ولاية مصر فقال: (أبسط بُشرك وألن كنفك وآثر الرفق في الأمور فإنه أبلغ بك). وأوصاه بحسن اختيار حاجبه، إذ قال له: (انظر لحاجبك من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الذي تأذن له أو ترده)، وفي قوله توجيه يحسن به الأداء نحو إدارة الحكم والحفاظ عنه. وفي العهد العباسي ومع الخليفة الأول أبو العباس عبدالله بن محمد (132هـ - 136هـ)، ومن ضمن خطب له بالكوفة حين تمت البيعة له قال: (الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، فكرّمه، وشرّفه، وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه، وحصنه والقوام به، والذابين عنه، والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق به، وأهلها وخصنا برحم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته، واشتقّنا من تبعته إلى أن قال: وزعمت السبئية الظلال أن غيرنا أحق بالرياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم بم ولِمَ أيها الناس، وبنا هدى الله الناس)، وختم فقال: (أتاكم الله بدولتكم فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مئة درهم فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير). حقبة من ازدهار القيادة والرعية في المحتوى، حيث العمق يتجلى من خلال الوسطية والفطرة والتقوى، وبجهد وجهاد وزهد وعطاء، وتواضع يدرك واجبه ومسؤوليته بعلم موهوب - بهذا كله وبأكثر منه صاغ رجال هذه العصور - بقوة المعتقد وما تميز به، حضارة إنسانية لا يمكن أن يتجاوزها التاريخ حيث صداها يتردد أثره في أنحاء المعمورة. السؤال الذي يلح الآن من نحن؟ ومن كل هؤلاء؟ لهم حال ولنا حال، فرسالة السماء لا يلزمها ولا يجوز التصور بالتبديل، لأنها لكل عصر بزمانه ومكانه وإمكانه، والمُلح أن تتطور الأمة بروح المعتقد وأن تسمو به، إننا مكلفون بحمل الرسالة ونشر الدعوة بالحسنى، حيث شرطت به لغتنا، وأكرم الله - عز وجل - بمن حمل الرسالة في أصله صلى الله عليه وسلم.
|
|
|
| |
|